كانت اللغة الأولى لغة مجازية ، هذا ما يذهب إليه الفيلسوف جان جاك روسو في كتابه القيّم (بحث في أصل اللغات وعلاقتها بالموسيقى). إذ إن الانفعالات وفق قناعته كانت الأسباب الأولى التي دفعت الإنسان إلى الكلام، لا الحاجة. لقد ولدت عبارات الإنسان الأولى على شكل استعارات بعد أن بقي دهوراً كاملة يتواصل بالإيماءة وتنغيم الصوت موسيقياً، محاكاة لأصوات الطبيعة.
في البداية لم يكن الكلام إلا شعراً، ويبدو أن الكلمة المجازية وُلِدت قبل التعبير الحقيقي، كل الانفعالات تقرّب بين البشر، ليس الجوع والعطش هما اللذان انتزعا من الناس الأصوات الأولى ، وإنما الحب والحقد والشفقة. لقد منحت الطبيعة الإنسان صرخات ونبرات وتأوهات، تلك هي أقدم الكلمات المخترعة مما يجعل اللغات الأولى عذبة وانفعالية وتلقائية، قبل أن تصبح منبسطة ومنهجية. 
(يبدو أن الكلمة المجازية ولدت قبل الكلمة الحقيقية عندما كان الانفعال يغشى عيوننا، وعندما كانت الفكرة الأولى التي كان يقدمها لنا غير مطابقة للحقيقية) ص: 20
وهنا يفترض جان جاك روسو سؤال القارئ : كيف يمكن أن تكون عبارة ما مجازية قبل أن يكون لها معنى حقيقي، علماً أن الصورة لا تبرز خلال نقل المعنى؟
يجيب روسو بمثال: حين التقى إنسان بدائي متوحش أول مرة بآخرين، أحس أولاً بالخوف. ودفعه خوفه إلى أن يرى هؤلاء الناس أكبر وأقوى منه، لذلك أطلق عليهم اسم (عمالقة). وبعد تجارب عديدة اكتشف أن هؤلاء (العمالقة) لم يكونوا أقوى منه وقاماتهم لم تناسب الفكرة التي اقترنت لديه في البداية بكلمة (عملاق) الدالة على ما أثار انتباهه في فترة التوهم. 

إن الصورة الوهمية التي تعطيها الانفعالات تظهر أولاً، واللغة التي تعبر عنها كانت أول لغة اختُرِعَت، هذه اللغة أصبحت فيما بعد مجازية عندما تعرف العقل الواعي على خطئه الأول فابتكر الحجج المنطقية. 
تُغير اللغة من خصائصها، كلما انتشر نور العقل والتفكير المنطقي بحيث تصبح أكثر دقة وأقل انفعالاً مستبدلة العواطف بالأفكارومخاطبة العقل بدل التحدث إلى القلب، وانطلاقاً من ذلك تضعف النبرة وتتسع دائرة الألفاظ المنطوقة وتصبح اللغة أكثر دقة ومعيارية، لكنها في الآن ذاته تفقد سحرها وتصير فاترة وبطيئة وبلا رنين.
عندما ظهرت الأصوات الأولى تشكلت معها المقاطع اللفظية الأولى وذلك تبعاً للعاطفة التي كانت تحرك تلك الأصوات والنغمات، فالغضب مثلاً ينتزع صرخات تهديد يشكلها معاً اللسان وسقف الحلق. أما صوت الحنان فأكثر عذوبة ويصدر من أعلى الحنجرة، ثم يتحول إلى نغم. وتقوم العاطفة القوية بتحريك الأعضاء المصوتة معطية بذلك للصوت رونقه وجماله. انطلاقاً من ذلك نرى أن للشعر والأناشيد والكلام الأول أصلاً مشتركاً. 
لقد كانت الأحاديث الأولى هي أول الأغنيات في تلك البلدان الدافئة والتي يصفها روسو (البلدات ذات المناخ السعيد)، حيث تزخر بالإمالات اللحنية في النبرات، وحيث الحكايات نُظِمَت شعراً، والقوانين والنحو لُحِّنَت أناشيد.
في تلك الأزمنة السعيدة لم تكن هناك حاجة ماسة تتطلب مساهمة الآخرين إلا بالعواطف النابعة من القلب. لقد كان الكلام لسان الروح .. أوركسترا نضارة وطراوة، وسحراً مجازياً أخاذاً.