حمل عدسته وجال في شوارع وأزقة بيروت، وفي كل مدينة وبلدة حلّ فيها، وراح يلتقط لمسة الجمال في كل التفاصيل، حتى باتت جعبته مليئة بالبيوت القرميدية العتيقة والقناطر الجميلة وبصور السماء والبحر والجبال والعصافير والكراسي الخشبية وأطباق اللوبياء بالزيت واللحم بعجين والمنقوشة اللبنانية العريقة والكورنيش البحري وأعمدة بعلبك، وبملامح كثيرة جعلت من بيروت بيروت. حتى أصبح الشاب اللبناني كارل منصور، فنان اللقطة الفوتوغرافية الاستثنائية، (كارل في كل مكان Karl is everywhere) وهو عنوان مشروعه الفوتوغرافي. والذي عُرف به بين كلّ من يدرك قيمة الصورة في حفظ اللحظة، وأهمية اللحظة في تأريخ المدن والملامح والحنين.  درس كارل الهندسة المعمارية في جامعات لبنان وايطاليا، ومن هنا كانت بداية حديثنا معه:

  • كارل منصور

• ما علاقة الهندسة بالصورة.. وكيف كانت البداية في المجالين؟ 

- لا مهندسين في عائلتي، جميعهم إما أطباء أو محامون، لكنني قررت اقتحام مجالاً يشبهني أكثر فكانت الهندسة. كنت أمسك في صغري ورقة وقلماً وأرسم تصاميم أراها بقلبي قبل العقل. ولم يحدثني أحد عن وقع الصورة لكنني أمسكت الكاميرا، كهواية جامحة، وصرت أبحث عن البيوت القديمة الأثرية، وأخلدها في صورة. وحين افتتحت حسابي على (انستغرام) قبل عشرة أعوام، بتّ أخزّن في طياته أجمل اللحظات التي اختبرتها من خلال التقاط الصورة. والصورة أصبحت صوراً. والحساب الإلكتروني أصبح صلة وصل بين ما أختبره في صورة وعيون الناس.

• هل وجدت ضالتك وشغفك من خلال عدسة الكاميرا؟ 

- بالفعل، لكن إذا عدتم إلى صوري الأولى، لم تكن تأتي في نفس السياقات والألوان. وشيئاً فشيئاً أصبح عالمي هذا مركزاً أكثر. طورت نفسي فتطورت تقنياتي، وصوري باتت تشبهني أكثر. أصبحت لها لمسة خاصة وصفة خاصة. وأصبحت كبار الحسابات العالمية تعيد نشرها. حصل هذا بالصدفة لكنه دفعني إلى المضي قدماً في شغفي. وأصبح من يرى صورة لي يقول قبل أن يعرف من التقطها: هذه صورة كارل منصور.

 

خفايا الصور

• ما سرّ تميّز صورك؟

- هناك خفايا كثيرة، سُئلت عنها لكني احتفظت بها لنفسي. كنت حين أشعر بمشهدية ما ألتقطها في صورة، حتى ولو لم تكن تتمتع بمقاييس الجمال العادية لكنني أحولها إلى لقطة جميلة. أحب أن أنقل (الجمال) في الأشياء والطبيعة إلى كل الآخرين. وأستخدم لعبة الألوان من أجل إبراز ما أريد تسليط الضوء عليه. وأحب أن أجعل اللقطة (حيّة)، حتى ولو كانت تتضمن حطاماً أو جدراناً متسخة أو شرفات مهدمة.

• كيف عشت لحظات انفجار مرفأ بيروت؟ 

- بعد انفجار بيروت في الرابع من أغسطس الماضي، نزلت إلى الشوارع في اليوم التالي وفوجئت بما رأيت، واكتشفت عمق المأساة حين رأيت أن الكثير من التفاصيل التي احتفظت بها في صور، تهدمت ولم يعد لها وجود. وصرت أقارن بصوري بين قبل وبعد. بيروت عزيزة كثيراً على قلبي. ساعدت في توزيع المساعدات على أهاليها وفي التقاط تفاصيلها الجديدة التي (قتلت) تفاصيل كانت (بيروتية جداً). جلت على مناطق الكرنتينا والجميزة ومارمخايل، ورأيت كثيراً من البيوت التي أرختها في صور زالت من بكرة أبيها. بيروت الجديدة (المغتالة) لم تعد كما هي في صوري. ونشرت صور الخراب على (ستوري انستغرام) ولم أنشر على الصفحة، إلا صورتين من الدمار. أردت أن أبقي جمال بيروت أمام عيني حاضراً بشكل دائم.

 

• ما المشاعر التي تجتاحك اليوم وأنت ترى صور بيروت قبل والآن؟ هل تشعر بالحزن أم ترى نفسك محظوظاً كونك نجحت في حفظ الأمكنة؟

- أشعر بالرضا عن نفسي كوني تمكنت من حفظ ما قد يراه كثيرون بعد حين (نوستالجيا). وهناك من يستعينون بصوري كي يعيدوا بناء ما تهدم كما كان. 

30 مدينة

• كم عدد المدن التي زرتها والتقطت صوراً لها؟

- زرت أكثر من ثلاثين مدينة. جلتُ في كل المدن الإيطالية، ولكن بقيت بيروت هي النبض والروح. بيروت تضم القدم والحداثة في الزقاق الواحد. تجدين فيها المباني التراثية المشيدة على النسق العثماني والبيوت العصرية (المودرن). 

• ساعدت في وضع اللمسات على بيوت بعض المشاهير، مثل ملكة الجمال ريما فقيه. فما الذي طلبته عارضة الأزياء هذه التي حازت ذات يوم لقب ملكة جمال الولايات المتحدة الأميركية؟ 

 - كان الاقتراح أن يكون المنزل عصرياً وبالأبيض والأسود، لكن بصراحة لم ننجز المشروع بسبب ظهور بعض المشاكل . في كل حال، أحب الدمج دائماً بين العصري والتراثي.

• في الهندسة تبني وفي الصورة تلتقط الأشياء والتفاصيل وتخلدها، فهل فن التصوير يطغى لديك على فن البناء؟

ـ في الوقت الحالي، في الجمود السائد، أفضل فن التصوير وأحب عملي كفنان يلتقط الصور من خلال street shooting، أي أحمل كاميرا وأسرح في كل مكان. أحياناً، وأنا أعبر من مكان إلى آخر، يستوقفني مشهد ما فأوقف مركبتي وأهرع إليه، وأصبح كما الفتى المجنون الذي حصل على هدية قيّمة وأبدأ في التقاط الصور من كل الزوايا، تغريني اللقطة التي أتحرك من أجلها.

• هناك مشاهد نراها يومياً ونعبر من أمامها وكأننا لم نرَ شيئاً، في حين نشعر بقيمتها وجماليتها بعد أن نراها في صورك، فهل الجمال موجود في كل شيء شرط أن ننتبه إليه؟ 

- هناك روح في كل الأشياء الجامدة. وأنا لا أرى الأشياء السلبية في الأماكن والأشياء. بل يهمني إيقاظ العالم وتنبيههم إلى هذا الجمال الخفي أحياناً. ويهمني كثيراً أيضاً أن أعدّ قصّة حول كل الأماكن التي أعبر فيها. 

• كم عدد الصوّر في أرشيفك؟ 

- أملك أكثر من 20 ألف لقطة، وكل واحدة منها لها عشرات الصور من كل زواياها. 

• عدد متابعيك عبر (انستغرام) كبير جداً فهل يُرضيك ذلك؟

- سعيد بأن أجد الناس يهوون متابعة الهواية التي اخترتها.

احتراف الهواية

• هل بدأت هذه الهواية تتحول إلى مهنة؟

ـ بالفعل، هناك صور أبيعها. وهناك صور أقدمها. ما يهمني أن يرى من ينظرون في الصورة ما رأيته فيها. 

• تقرأ في تاريخ المدن كثيراً وترى في كل واحدة مخزوناً من الجمال والعمق التاريخي والأبعاد. ماذا قد تلتقط في الإمارات ومصر والشام والمغرب؟

- أول مشهد ألتقطه في دولة الإمارات هو الصحراء ووراءها العمران والحداثة. وأحب كثيراً التقاط تفاصيل من الأسواق القديمة ومتحف اللوفر ومسجد الشيخ زايد في أبوظبي. وأتمنى أن تتاح لي ممارسة شغفي في الحمامات القديمة في دمشق. وفي أسواق مراكش. والأحياء الشعبية في مصر. 

• عمرُك 28 عاماً، ماذا عن أحلامك التالية؟ 

- أن أستمرّ في التطور. وهدفي تقديم الفرح لكل الناس ولو على شكل صورة. وفي هذه الأيام أحرص على التقاط تفاصيل من كل لبنان لأحتفظ بها وأريها إلى كل من يريد أن يتنشق رائحة تراب لبنان وتمنعه الأحداث فيه. أتمنى أن أنجح في ذلك. وأن يظل يناضل كل البشر من أجل المحافظة على أوطانهم حيث لهم فيها شجرة وغيمة وظلّ شمس.

 

إقرأ أيضاً: المشربية «إكسبو دبي» يصنع المستقبل