يستحضر الحديث عن الأمومة أبجدية الحروف، فنجد الثمانية والعشرين حرفاً تتقازم أمام المشاعر الجياشة كالبركان الهائج، فلا تكفي أوراق العالم لوصفها، ويجف مداد الأقلام وتغلب الكلمات دموعاً دافئة ممتدة من دفء قلب الأم وحنانها، تلك هي الأم التي احتضنت وربت وسهرت الليالي كي ينام رضيعها ويهدأ، لم تتذمر ولم تشتكِ يوماً، وتتحمل الآلام بسعادة، ومثلها أيضاً الأم الحاضنة التي تكفل طفلاً، فهي تجسد المقولة الشهيرة (ليست الأم من أنجبت.. بل من ربت)، فهناك الكثير من الأطفال حول العالم، ممن حرموا الوالدين ودفء الأسرة، ويطلق عليهم مسميات مثل: (الأيتام، مجهولي النسب، أو أبناء النزلاء)، لكنهم يفتقدون قيمة الأسرة، وبحاجة لمد يد العون لهم ورعايتهم، ودمجهم في المجتمع للحفاظ على صحتهم النفسية، فليس لهم أي ذنب فيما وجدوا عليه حالهم. وفي مناسبة يوم الأم، تلتقي «زهرة الخليج» ثلاث أمهات بديلات أو حاضنات، لنستمع إلى تجاربهن الإنسانية مع فلذات أكباد غيرهن.

  • الطبيبة السعودية سمر سالم باريان والطفل (فيصل) الذي أصبح ابنها السابع.

 

تحكي الطبيبة السعودية سمر سالم باريان، والتي تعمل أستاذاً مساعداً واستشارياً لطب الأسرة، وهي أم لستة أبناء، عن قصة كفالتها للطفل (فيصل) الذي أصبح ابنها السابع، وتقول: «عام 2017 شاهدت ابنتي الكبرى التي تعمل طبيبة متدربة في مستشفى الملك فهد الجامعي الرضيع فيصل للمرة الأولى، بعد أن تركته والدته فور ولادته بالمستشفى وذهبت إلى حال سبيلها، فبقي الصغير يبكي ويبحث عن صدر أمه ليضمه ويحميه من برد الشتاء وقسوة الأيام، ولم يجد الصغير من يستقبله بفرحة ولم تضأ له الشموع، لكنه وجد نفسه وحيداً في الحياة ومن أول يوم لولادته، مما أدى إلى أن يمتنع عن النوم والرضاعة الطبيعية، فتحدثت ابنتي إليّ عنه، فذهبت إلى المستشفى لأراه، وكان لقائي الأول به عندما ضممته بين ذراعيّ ورضع بهدوء من الببرونة التي طالما أعدتها الممرضات ورفضها الرضيع، ونام في حضني بهدوء مثل الملائكة، فصرت أزوره يومياً لرعايته، ويوماً تلو الآخر لم أستطع التخلي عن فيصل، وشعرت بأنه ابني السابع الذي لم أنجبه، وعلى الرغم من التحديات التي واجهتني لكفالته، لكنني نجحت في ذلك واصطحبته إلى منزلي بعد استكمال كافة الإجراءات القانونية، وقمت بإرضاعة 6 رضعات مشبعات، ليكون أخاً شرعياً لأبنائي وهو الآن يبلغ عامه الرابع».

تقول الدكتورة سمر عن التحديات التي واجهتها، خلال مشوار كفالة الطفل: «وجود فيصل في بيتنا أضفى البهجة ونثر الحب والحنان أينما حل، ملامحه البريئة ملأت حياتنا فرحة وسعادة، في البداية كنت أعتقد أن كفالة فيصل تجربة إنسانية، لكنني لم أكن أتصور أن يوقظ الأمومة بداخلي، وأقوم بتربيته مثلما ربيت أبنائي، الكل سعداء بوجوده ولم أواجه أي تحديات من المجتمع والمحيطين، بل على العكس عبر الجميع عن سعادتهم بوجود فيصل بيننا، والتحدي الوحيد كان الإجراءات القانونية للكفالة التي واجهت فيها بعض الصعوبات، كوني أماً لستة أبناء والقانون يتطلب أن تكون المرأة الحاضنة لا تنجب».

  • الأردنية غادة المحتسب تعيش الأمومة مع (غزل) بمعناها الحقيقي.

 

امرأة سعيدة قوية

تشير معلمة الحاسوب الأردنية غادة المحتسب، إلى أنها كفلت ابنتها التي أطلقت عليها اسم (غزل) منذ عامين، وتروي قصتها، قائلة: «تزوجت منذ 13 عاماً ولم يرزقني الله بأطفال، ولم أفكر في كفالة طفل من دور الرعاية يوماً، فقد سلمت أمري إلى رب العالمين ورضيت بالقضاء والقدر، وأن أعيش بقية حياتي من دون أن يناديني طفلي بكلمة ماما، إلى أن اختارتني (غزل) لأقوم بهذا الدور في حياتها، عندما كشفت الغطاء عن وجهها لأرى أجمل ابتسامة تأسر قلب من يراها، واقتحمت عالمي فانقلبت حياتي للأفضل، وتغيرت نظرتي للحياة، عندما أشرقت غزل في منزلنا، وملأت الدنيا بنور وجهها الصبوح وبراءة ابتسامتها التي تدغدغ مشاعر من يراها». وعن إجراءات الكفالة، توضح غادة أنها تقدمت بطلب احتضان إلى وزارة التنمية الاجتماعية في الأردن، لكن الإجراءات تطلبت منها بعض الوقت، لم تستطع أن تبتعد عن (غزل) خلاله، فقد كانت تعد الأيام والساعات منذ ضمتها إلى صدرها أول مرة، إلى أن تقدمت إلى برنامج (الأسر البديلة) برعاية اليونيسيف، واستطاعت أن تنهي إجراءات الكفالة، وعلى الفور اصطحبت ابنتها بالاحتضان إلى المنزل وأصبحت أحد أفراد الأسرة على الفور.

ألهمت (غزل) أمها بالاحتضان لتصدر كتاباً تحدثت فيه عن اختلاف البشر بألوانهم وجنسياتهم وأعراقهم، وإتفاقهم في إنسانيتهم التي لن تتغير ما دامت الحياة باقية. وتشير غادة إلى أنها أطلقت أيضاً مشروعاً جديداً أطلقت عليه اسم (غزل شوكولاتة)، مؤكدة أنها تعيش الأمومة مع (غزل) بمعناها الحقيقي، وأصبحت أكثر إقبالاً على الحياة، تمارس الرياضة وتندمج في الحياة الاجتماعية.                

وتلفت غادة النظر إلى أنها تعلم (غزل) - على الرغم من صغر سنها - كيف تكون امرأة قوية سعيدة، لا تسمح لأي أحد بأن يتنمر عليها يوماً ما أو يعكر صفو أيامها مهما حدث، وتضيف: «لن أخفي عن غزل أنني لست والدتها البيولوجية، وسأخبرها بأنني أمها بالاحتصان، فمصارحتها بتقبل الحقيقة كما هي، ستجعلها أقدر على مواجهة المجتمع في المستقبل». وتبين غادة أنها انضمت إلى جروب للأمهات الحاضنات على مواقع التواصل الاجتماعي، تروي تجارب الأمهات المحتضنات، حتى تشعر ابنتها غزل في المستقبل، بأنها ليست الوحيدة التي كفلتها أسرة، وأن الأمر طبيعي، ولا يوجد به ما يجعلها في موضع حرج أو خجل من المحيطين، مؤكدة: «عليها أن تتعايش مع وضعها بكل ثقة وسعادة، فالأطفال مثل كتاب أوراقه بيضاء، نحن من نسطر صفحاته». 

تروي المصرية يمنى دحدوح المقيمة في دبي حالياً، حكايتها مع طفلتها بالاحتضان (ليلى)، وكيف ساهمت في تأسيس (مبادرة الاحتضان) في مصر على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك)، وتقول: «تزوجت منذ 12 عاماً ولم أنجب، وفي عام 2015 عرض عليّ زوجي فكرة احتضان طفلة، وكنت في ذلك الوقت مقيمة بالمملكة العربية السعودية، في البداية شعرت بالخوف والرهبة من تلك الفكرة، وراودتني أفكار مختلطة ومتضاربة كثيرة، رغبتي في معايشة مشاعر الأمومة من ناحية، ومن جهة أخرى الخوف من تحمل مسؤولية طفلة ليست من دمي ولم أنجبها، لا سيما وقد ازداد الوضع سوءاً بالنسبة لي، عندما سألت عن فكرة الاحتضان في مصر وسمعت معلومات خاطئة، تشير إلى أنني لا أستطيع أن أسافر مع ابنتي بعد الكفالة مباشرة، ولا بد أن أبقى معها لمدة عام في مصر، وكان من الصعب جداً أن أترك زوجي وعملي بالسعودية تلك الفترة فقررت إلغاء الفكرة».

  • المصرية يمنى دحروج تعتزم كفالة طفل آخر كي لا تشعر (ليلى) بالوحدة.

 

أبسط الحقوق

تضيف يمنى: «وفي عام  2018، انتقل زوجي للعمل في مصر، وحينئذ قررت التوجه إلى مديرية التضامن الاجتماعي لكفالة طفلة، وقمت بإنهاء الإجراءات الرسمية المطلوبة، واجتزت لجنة الاختبارات، للتأكد من صلاحيتي للقيام بدور الأم للطفلة (ليلى) التي كانت لم تتعدَّ شهرها الرابع في ذلك الوقت، وشعرت نحوها بحنين جارف وكأنها ابنتي ومن دمي، وهي الآن تبلغ من العمر عامين ونصفاً تقريباً، وأتمنى أن أراها زوجة وأماً وأن أحضر عرسها، وبعد نجاح التجربة وفي المستقبل القريب، أعتزم القيام بكفالة طفل آخر كي لا تشعر ليلى بالوحدة، لأكون بذلك أسرة كبيرة وعائلة محاطة بالدفء والسعادة».

وعن فكرة مبادرة الاحتضان التي أطلقتها، تقول يمنى: «عندما ذهبت إلى دور الرعاية لاختيار ابنتي الحالية (ليلى)، اقتحمت عالماً لم أعلم أنه بهذا العدد الكبير، وشعرت بحاجة هؤلاء الأطفال الشديدة لمن يمد لهم يد العون والمساعدة وأن يحصلوا على أبسط حقوقهم بالحياة، وهي الاندماج في جو أسري مستقر، فقمت بتأسيس صفحة على فيس بوك يتابعها حالياً (86 ألف شخص) أجد منهم الكثير من التفاعل والإيجابية، أطلقت عليها اسم (الاحتضان في مصر) بهدف نشر الوعي عن فكرة الاحتضان وكيفيتها وأهميتها، وصرت أحيا على أمل واحد، هو أن أرى دور الرعاية في مصر، خالية تماماً من الأطفال وقد وجدوا من يقدم لهم يد العون ويدمجهم وسط العائلات».