حكى لي جدي يوماً أن هناك أسطورة تقول: إن «هؤلاء الذين نصافحهم بكفنا الأيسر لا يعودون.. يتحولون إلى طيور نورس مهاجرة، تغادر سماءنا إلى الأبد دون عودة، تاركين خلفهم بعض الصدى الذي يزول صوته مع الأيام، وندبة خفيفة في القلب لا تلبث أن تُشفى مع الوقت».

«إذن لا أصافح بالكف الأيسر أبداً»!.. بحماسة طفلة تخاف من الفقد، قلتُها لتعانق الابتسامة تجاعيد وجهه مع جوابه الحكيم: «بعضهم ستحتاجين إلى أن تفعليها معهم!».

ابتسامة شبيهة تطوف بملامحي، الآن، بعد كل هذه السنوات، وأنا أتذكر كلماته، بينما أدور ببصري في بعض الصور والمحادثات القديمة.

صدق الرجل! بعضهم أحتاج إلى مصافحته بالكف الأيسر!

هؤلاء الذين طعنونا بالغدر.. دهسوا زهور الود بقدم قاسية لا تبالي.. وأمعنوا في الضغط على جرح أحدثته أيديهم.. وانتزعوا من أحداقنا دمعة كانت ترقص لهم فرحاً، ليغرسوا بدلاً منها دموعَ حسرةٍ.. حلالٌ لهم مصافحة بكف أيسر!

هؤلاء الذين لا تمنحنا صور مراياهم إلا انعكاساتنا المعيبة، فلا يُبدون لنا إلا كل انتقاص، كأنهم هبطوا من السماء ملائكة فضاقوا بثقل خطايانا.. يتحسسون لنا حصى الزلات فيرونه كالجبال، ويغفلون شموس عطايانا، مغمضين بالجحود أعينهم.. حلالٌ لهم مصافحة بكف أيسر!

إقرأ أيضاً:  رئيس التحرير بالإنابة فاطمة هلال تكتب: اكتشفوا أنفسكم
 

هؤلاء الذين أضاعوا طريقنا عمداً، ثم جلسوا على قارعة طريقهم يذرفون دموع التماسيح.. مزقوا بتلات زهورنا فلم يبقَ لهم سوى أشواكها.. أفلتوا نجومهم من مدارات أفلاكنا فَهَوَتْ محترقة، وتركوا أثر خدوش أظافرهم فوق الكتف نفسها، التي احتواهم يوماً عناقها.. حلالٌ لهم مصافحة بكف أيسر!

هؤلاء الذين يولون وجوههم شطر قِبلة المصلحة.. أقنعتهم جاهزة في جيوبهم، يرتدون أيها أكثر ملاءمة للطقس الجديد.. تتحسس جلودهم من شمس الوضوح، وهواء الصراحة.. فقط يجدون راحتهم في ضبابية الأجواء.. فلا يسندون ظهراً، ولا يقيلون عثرة، بل أقدامهم لا تبالي بدهس أي شيء كي تصعد - ما تراه - سلماً!.. فحلالٌ لهم مصافحة بكف أيسر!

وحتى هؤلاء الذين أحبونا بصمت.. لكنَّ حبهم بقي ككنز مدفون، رضوا بأن يكون «أسلم» تحت التراب من أن يكون «أثمن» فوقه.. بخلوا علينا بأعناب الحب وطيب ثماره، قانعين بأن يلقوا لنا كسرةً من خبزه الجاف، لا تسمن ولا تغني من جوع.. أخفوا لحننا النابض في صدورهم، وتركونا نسد آذاننا خوفاً من نعيق الغربان.. جبنوا عن منحنا عناقاً يحتوي خوف صدورنا، فاستحقوا التفات ظهورنا.. حلالٌ لهم مصافحة بكف أيسر!

يوماً ما.. ربما في عالم آخر.. سأخبر جدي بأن مصافحاتي بالكف الأيمن كانت أقل كثيراً مما رجوت، لكنه أجاد التشبث بمن أيقن أنه لن يفارق ولن يخون.. بينما لاتزال كفي الأيسر عاكفاً على مصافحاته المؤلمة - والمنصفة - فلا أحد يستحق أن يحلق في سمائنا إلا من رسم شمسها وقمرها، ومحا غيومها وكدرها، وألقى على القلب عذب السلام.. فاستحق يُمن السلام!