إن لله أزمنة، فاضل بينها فجعل منها: مواسم تكثر فيها الخيرات، وتزداد الحسنات، وترفع الدرجات، وتكفر السيئات، ومن تلك الأزمنة العظيمة القدر يوم عرفة:

فهو أحد أيام شهر ذي الحجة، وهو من الأشهر الحرم التي قال الله تعالى فيها: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ... ﴾[التوبة: 39]. فضلاً عن كونه أحد أيام أشهر الحج، التي قال الله تعالى فيها: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ... ﴾[البقرة: 197]، كما أنه أحد الأيام المعلومات التي أثنى الله تعالى عليها في كتابه، فقال سبحانه: ﴿...وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ... ﴾[الحج: 28].

وأقسم الله تعالى به، ضمن ما أقسم به من ليالٍ في قوله تعالى: ﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾[الفجر: 2]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنها عشر ذي الحجة، قال رسول الله ﷺ: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ ـ  يَعْنِى أَيَّامَ الْعَشْرِ ـ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلاَ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَىْءٍ"[سنن أبي داود]، وفي قوله تعالى: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾[البروج:3]، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ، قال: "اليَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ القِيَامَةِ، وَاليَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الجُمُعَةِ"[سنن الترمذي]، وفي قوله تعالى: ﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْر﴾، قال جابر بن عبدالله: قال النبي ﷺ: "الْوَتْرَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّفْعَ يَوْمُ النَّحْرِ"[مسند أحمد].

وهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين، وأتم النعمة على المؤمنين، قال تعالى: ﴿... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا...﴾[المائدة:5]. قال عمر رضي الله عنه: "قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ، وَالمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ"[صحيح البخاري].

فهو يوم عيد لأهل الموقف، قال رسول الله ﷺ: "يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الإِسْلاَمِ..."[سنن أبي داود]، وحث فيه النبي ﷺ غير الحجيج على صيامه؛ لما في ذلك من الأجر الكبير، كما في قوله ﷺ لما سئل عن صيامه: "يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ"[صحيح مسلم]، إذ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَصُومُ تِسْعَ ذِى الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ وَالْخَمِيسَ"[سنن أبي داود]

إقرأ أيضاً:  مكة المكرمة تستقبل طلائع الحجاج
 

ويوم عرفة فيه الركن الأعظم من أركان الحج، وهو الوقوف بعرفة، قال ﷺ: "... الحَجُّ عَرَفَةُ..."[سنن الترمذي]، ويعتقُ الله تعالى فيه من النار ما لا يعتق في غيره، قال ﷺ: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ..."[صحيح مسلم].

فعلى المسلم أن يستثمر هذه الأوقات الطيبة بكثرة الدعاء وإظهار التضرع والحاجة لله تعالى، فإن خير الدعاء دعاء يوم عرفة، فالله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا ـ نزولاً يليق بذاته ـ يباهي بالحجيج ملائكته، يقول رسول الله ﷺ: "وَأَمَّا وُقُوفُكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَهْبِطُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلاَئِكَةَ وَيَقُولُ: هَؤُلاَءِ عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا، مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، يَرْجُونَ رَحْمَتِي، فَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُهُمْ عَدَدَ الرَّمْلِ، أَوْ عَدَدَ الْقَطْرِ، أَوْ زَبَدَ الْبَحْرِ، لَغَفَرْتُهَا، أَفِيضُوا عبادي، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ وَلِمَنْ شَفَعْتُمْ لَهُ"[مسند البزار].

ومِنْ أعظمِ الأعمالِ، التِي يتقَرَّبُ بِهَا المسلمُ لربِّهِ تعالَى فِي يومِ عرفةَ إدخالُ السرورِ علَى المساكينِ، والسعْيُ فِي قضاءِ حاجاتِ الفقراءِ والمحتاجينَ.

الواعظ/ حسن أبو العينين