كما كانت مثالاً للمرأة القوية، وملهمةً لشقيقها الأكبر كريستيان ديور Christian Dior، تعد قصة حياة كاثرين ديور Catherine Dior، ملهمة لكل امرأة، وتستحق تسليط الضوء عليها.. فقد لعبت كاثرين دوراً حاسماً في حياة مصمّم الأزياء وصانع العطور كريستيان ديور، في لحظات انتصاره وسعادته، وأحلك أوقات حياته على حدّ سواء. وهي تبقى، اليوم، حيّة في الذاكرة؛ فتشكّل الإلهام لدار ملتزمة، تماماً، بقدر النساء الاستثنائيّات.
 

 عاشت كاثرين، شقيقة كريستيان الصغرى المحبوبة، ألف حياة، إذ نشأت ضمن الطبقة المتوسطة - العليا في «نورماندي»، ثمّ اضطرّت إلى العيش بالمنفى في «بروفانس»، خلال فترة الكساد الكبير. بعدها تحوّلت إلى مقاتلة مميزة في المقاومة. وبعد الحرب، كرّست نفسها للتجارة، ثمّ لزراعة الأزهار الخاصة بالعطور مع رفيقها Hervé des Charbonneries.
 
 طفولة ذهبية
 ولدت الأخت الصغرى بين الأخوة «ديور» (واسمها الحقيقي Ginette)، في محيط بورجوازي في فيلا «Les Rhumbs» في غرانفيل (نورماندي). خلال طفولتها، عاشت روعة عائلة Dior في سنواتها الأخيرة، التي تأثرت كثيراً بالكساد الكبير، وسرعان ما تدهورت أحوالها الاقتصاديّة. عند بلوغها الـ17 من عمرها، أجبرت على العيش في المنفى مع والدها في «بروفانس»، كاليان، في منزل ريفي، بعيداً عن فخامة شقّتهم الواقعة عند الدائرة السادسة عشرة في باريس. وكان كريستيان ديور، الذي كان يملك معرضاً فنياً في باريس، قد خسر كلّ شيء قبل أن يعيد ابتكار نفسه كمصمّم أزياء. وبما أنها كانت مقرّبة جداً من أخيها الأكبر الملهم، المحاط دائماً بحشد من الفنّانين العظماء، سرعان ما انضمّت إليه في باريس، حيث أقامت معه في Hotel de Bourgogne، معقل الحياة البوهيميّة الباريسيّة. وكاثرين التي كانت لاتزال في العشرين من عمرها، وبالتأكيد متأثرة بشقيقها الأكبر، عملت في دار أزياء لصناعة القبعات والقفازات، وكانت تلك وظيفتها الأولى المعروفة.
 

 بطلة السنوات المظلمة
 خلال الحرب العالمية الثانية، لجأ مايورك ديور برفقة كرستيان وكاثرين إلى «بروفانس»، وأقاموا هناك بمنزل متواضع في «Nayssés»، حيث قاموا بزراعة الخضراوات، التي ستسمح لهم بالبقاء على قيد الحياة، خلال فترة الاحتلال. وبقي تعلّق كاثرين بالأرض على حاله طوال حياتها. فعندما كانت لاتزال شابة، تعرّفت إلى Hervé des Charbonneries في «نيس». وبما أنها كانت شغوفة بالسياسة ومناضلة عظيمة، انضمّت إليه بشجاعة سراً في شبكة «F2» للمقاومة كضابطة اتصالات، تحت الاسم المستعار «كارو». بعد أن تمّ اكتشافها، اضطرّت إلى الهرب مع رفيقها إلى باريس، حيث اختبأت في أماكن عدة، من بينها منزل أخيها في 10 شارع رويال. وفي النهاية، ألقى «الغيستابو» القبض عليها، وتم تعذيبها بقسوة، غير أنها لم تكشف عن هويّة أيّ شخص؛ فأنقذت بذلك حياة رفيقها، وأشخاص آخرين عديدين. ثمّ تم ترحيلها إلى «بوكنفيلد»، لتعود بعد قضائها عشرة أشهر سيئة في معسكر اعتقال. فبدل الشابة المتفتحة، اكتشف شقيقها كريستيان امرأة مصابة بكدمات.
  

وصلت الآنسة Dior! 
 عادت الحياة إلى كاثرين، عند اجتماعها من جديد بحبّ حياتها، ووالدها وأخيها المحبوب؛ فقامت مع Hervé des Charbonneries بإعادة ابتكار نفسيهما كتاجري زهور، عائدَيْن بذلك إلى حياة يوميّة أكثر هدوءاً. في غضون ذلك، صاغ كريستيان ديور مصيره بنفسه، وأطلق مجموعة «New Look» الشهيرة، التي وضعته، في يوم بارد من شهر فبراير 1947، بين أهمّ مصممي الأزياء؛ بسبب تصاميمه الحديثة الثوريّة. أخيراً، مع Dior، أعادت النساء اكتشاف أشكالهنّ المذهلة، والتألّق بتنانيرهنّ الطويلة. فكلّ واحد من تصاميمه كان يضجّ بالحياة، ونال إعجاب العالم! 
 وأراد كريستيان ديور أن يرافق الأنوثة التي أعاد اكتشافها عطراً تفوح منه رائحة الحبّ، غير أنّه لم يجد له الاسم المناسب: ما الاسم الذي يليق بهذا العطر؟ هنا من جديد، ستشكّل كاثرين، المتعثرة على درج 30 شارع Montaigne، مصدر إلهامه، عندما رأتها Mitza Bricard معاونته وملهمته، وقالت بحماسة: «حسناً.. ها قد وصلت الآنسة Dior!»، فأجابها كريستيان ديور: «Miss Dior»! هذا اسم عطري!.. ملهمة، مقاومة، وعنيدة، شكّلت كاثرين ديور بالفعل مثالاً للمرأة القويّة، التي نالت إعجاب شقيقها. 

 مع الزهور 
 في حين كان كريستيان ديور يحقق النجاح في أنحاء العالم كافة، مع أزيائه وعطوره، تابعت كاثرين حياتها في كنف الزهور. فتابعت بيع الزهور مع شريكها، والسفر إلى مناطق «Provence» النائية، التي كانت تعشقها. واستقرّا في النهاية هناك لزراعة حقول كاملة من ورود «سنتيفوليا»، ملكة الزهور العطريّة في منطقة «غراس». ورغم قربها من شقيقها، فإنها بقيت بعيدة عن عالمه الفخم، لكنها شاركته شغفه بالبستنة، وتعلّقه بالأرض والطبيعة. تجدر الإشارة إلى أن كريستيان ديور كان قد اشترى قصر «La Colle Noire»، القريب من منزله في «Nayssés». وشكّلت هذه الملكيّة الرائعة - حيث تمّت زراعة «أكرات» من الورود، والياسمين، وأشجار الفاكهة، وأشجار الزيتون - انغماسه الأخير. فارق كريستيان ديور الحياة فجأةً في أكتوبر 1957، تاركاً شقيقته لا عزاء لها، التي شاركته حبّه للحفلات الموسيقيّة، والرسم، والفنون، والجمال. أولت كاثرين ذكراه اهتماماً خاصاً، مستذكرةً معرفته كيفيّة توطيد الصداقات، وبقاء أصدقائه أوفياء له حتّى بعد وفاته؛ فقد كان إنساناً محاطاً بالصداقة، والتعاطف والحبّ!
 
 توفيت كاثرين ديور عام 2008، عن عمر ناهز الـ91 سنة، في ملكيّتها المليئة بالأزهار في «Callian»، حائزة رتبة فارس في فيلق الشرف، ووسام الصليب، وميدالية المقاومة؛ فتركت خلفها ذكرى امرأة تتمتّع بشجاعة استثنائيّة، شكّلت طاقة الحياة التي تمتّع بها مصدر إلهام «روحيّة Dior»، التي تقود الدار في شارع Montaigne.