حينما نفتح النافذة عند الصباح، ونرى السماء للحظة الأولى؛ فإن لون السماء - في تلك الحالة - يخلق فينا حالة مزاجية قد تصاحبنا بقية اليوم. فإن كانت زرقاء صافية، أو منقوشة ببعض السحابات الناصعة البياض؛ فإننا نشعر بالبهجة، وبيوم منفتح ومنطلق، ويسكن القلب حينها شعور بالطمأنينة. أما حينما نراها مفروشة باللون الرمادي الداكن، والشمس مختبئة خلف تلك السحابات الرمادية؛ فنشعر كأننا نُسجن خلف قضبان من الخوف، وينتابنا ذلك القلق الخفي الذي يظل صابغاً حالتنا المزاجية بصبغته الرمادية طوال اليوم.

علاقة الإنسان مع الألوان لا تفسرها العلوم المادية فقط، بل إن علم النفس أثبت أن الألوان لها أثر كبير في نفسية الإنسان، فمنها الألوان التي تبعث في النفس الطاقة الإيجابية والفرح، مثل: اللون الأزرق (لون السماء، والبحر)، وأيضاً اللون الأخضر. وهناك الألوان التي تبعث في الروح القلق والخوف، مثل: اللون الأسود، والأحمر.

علاقة الإنسان بالألوان تمتد في كل ما يحيط به من جوانب الحياة، لكن يظل الفن التشكيلي ذا أثر كبير في تضفير الألوان بالعقل والروح الإنسانية.

قد ينظر البعض إلى الفن التشكيلي على أنه مجرد نقل المشاهد الواقعية عبر القدرات الفنية للفنان، وكلما زادت درجة الإتقان في النقل؛ كلما زادت براعة الفنان. وأظن أن هذا مفهوم خاطئ، حينما نربط براعة النقل بتفوق الموهبة. فاللون هو العنصر الأكثر جاذبية في العمل الفني؛ لأنه الغلاف الذي يمتزج بكل مكوناته، فالألوان تمتلك طاقة غير محدودة من الأثر في النفس والعقل. وبراعة الفنان - من وجهة نظري - تكمن في قدرته على خلق هذا التمازج الحي بين الألوان وتفاصيل العمل الفني، وبين مفردات الحياة المسكونة في اللوحة التي تجعلني - كمتلقٍ - أتلقى المشاعر المسكونة في اللوحة، قبل تلقي العقل المفاهيم والأفكار، وبناء الجدل المعرفي. فحينما يأخذني الشغف إلى الألوان والفن، وأطوي المسافات إلى المتاحف التي تحتوي على اللوحات والإبداعات الإنسانية، ما يشدني - دائماً - ليس براعة نقل المشهد بقدر براعة خلط الألوان وتناسقها، والقدرة المبهرة للفنان على بناء ظلال من الألوان، تجعل هناك حيوية في اللوحة، كأنها تتحرك وتتحدث إليَّ، وتبوح لي بأسرارها حينما أتأملها من بوابة الروح، وليس من بوابة العين فقط. تلك الحالة قد لا تجدها في لوحات بارعة في نقل المشهد بدقة طبيعته، ومن وجهة نظري تلك البراعة في خلق الرابط بين مزيج الألوان، وبين روح المشاهد، هي السر في انبهارنا بأعمال فنانين، وعدمه أمام أعمال فنانين آخرين.

ثقافة الألوان والفن التشكيلي من أهم الروافد الثقافية، التي تحتاج منا إلى المزيد من بناء علاقة قوية بينها وبين الإنسان.. كثير من المهتمين بالفن التشكيلي يبنون علاقتهم به بناء على جهد فردي وذاتي، يرتبط بالاهتمام الشخصي، لكن استكشاف بواطن الاهتمام عند الإنسان العادي، وتغذيتها بصرياً بالفنون، يزيدان مساحة المهتمين بالفنون، ويجعلان أثر الفن والألوان ممتداً في المجتمع، وبالتأكيد هذا يعمل على الارتقاء بالروح، والسمو بالمشاعر الإنسانية.

فكم نحتاج إلى المزيد من نشر ثقافة الألوان والفن بصورة أكثر عمقاً وكثافة في مجتمعنا، من خلال المؤسسات التعليمية والثقافية والمعرفية!