المكان هو الشكل الأمثل لتمرير ورطتنا الخيالية في العالم، فهو البعد اللامحدود، الذي يحتضن رؤانا الفكرية والنفسية والروحية، والمبدع تتلبسه حالة المكان؛ فيأتي نتاجه ترجمة صادقة لظروف وتفاصيل البيئة من حوله، ويصبح البعد المكاني صوته الممزوج بطينة أرضه وماء سمائها، وتغدو مفرداته أصابع تشير إلى مكانه المغيب في روحه.

أحاول - قدر الإمكان - الإشارة إلى أن متوالية تأثر وتأثير الكاتب بالمكان لاتزال حاضرة بقوة، وبارزة بشكل جوهري في الأعمال الكتابية. بطبيعة الحال، الفضول في المكان من شأنه أن يُنشّط الذهن البشري، والكاتب يتغذى على نبع الطبيعة ومزاجها الحنون بكل حماسة، ويكوّن فكره وثقافته ولغته من وحي بيئته. يسعى في تشكيل شخصيته بالانغماس في أرضه. الكاتب رزق البلدة والأرض، وهي التي تمده بما تمده به من عطاءات إبداعية، وقد يعاني عذاباتها وآلامها، التي تنصهر في مشاعره، ويذوب إحساسه المثقل في حالات تشكلها.

للمكان علاقة بتخصيب اللغة، فلكل مكان قيمة إنسانية، وهي بطريقة - أو بأخرى - تصبغ العمل الإبداعي. فالمكان بذكرياته المتدفقة، وزخمه الوجداني والفلسفي، يشكّل عنصراً أساسياً في بناء العمل الإبداعي المؤثر، وبالتالي يظل انطلاق المبدع من نقطة المكان، فهو البوصلة المرشدة لمعرفة بيئات الشعوب بمختلف عاداتها وثقافاتها ومعتقداتها، بمعنى أن حضور المكان هو بمثابة البطل «الديناميكي»، الذي يشكل نبض العمل الإبداعي، ويؤكد خصوصيته، ويثري عناصره الفنية.

الجغرافيا المتنوعة تفتح بدايات جديدة للأشياء، فمبدع الريف والبحر والهواء والجبل والأفق المفتوح اعتاد أن يعقد علاقة تأملية طويلة ومتأنية مع الطبيعة، فخرجت إبداعاته تنفسية «أوكسجينية» روحية فلسفية، فيها الكثير من العمق المرموز، والماورائيات، والأفكار الغرائبية، باتباع وجهات جديدة في الكتابة، سواء كان ذلك بالفكرة المستحدثة، أو اللعب بخط سير الشعر والسرد، أو أي طريقة مبتكرة في الكتابة.

المكان المفتوح على الأفق، الذي يحمل بعداً مستتراً على اللغز، يتركك تتجول بحرية داخل اللون وموسيقى الأشياء، وفي أعماق الصورة بلا نهاية. تأمُّل الأفق المفتوح يمنح الكاتب عمقاً أكبر في الكتابة، فيسافر في الصوت الداخل في صوت آخر، ويلج مشهداً داخل مشهد آخر، ناهينا عن المكان المتنوع جغرافياً، المتناقض والمتدفق بنبع الفطرة والأسرار، التي لم تُمسس - بَعْدُ - من يد البشر، من شأنه أن يشكل جغرافيا دماغية متشعبة الممرات والدهاليز والأقبية، فتجري في الذهن، أيضاً، شعاب وأنهار من الخيال والأفكار، وتنشط أمواج الذاكرة.