قد‭ ‬يبدو‭ ‬الصلصال‭ ‬الأوليّ‭ ‬للكتابة‭ ‬الجلفارية‭ ‬كتلة‭ ‬واحدة‭ ‬ملمومة‭ ‬ومنصهرة‭ ‬داخل‭ ‬طبقات‭ ‬كيان‭ ‬بدئي‭ ‬قديم،‭ ‬كيان‭ ‬من‭ ‬وجع‭ ‬اليابسة‭ ‬والغرق،‭ ‬ومعاناة‭ ‬السلالات،‭ ‬شيفرة‭ ‬أبجدية‭ ‬عتيقة‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬لكل‭ ‬كاتب‭ ‬من‭ ‬كُتّاب‭ ‬إمارة‭ ‬رأس‭ ‬الخيمة‭ ‬فضاءً‭ ‬وحجراً‭ ‬وطريقة‭ ‬ايُخزّفب‭ ‬بها‭ ‬البُعد‭ ‬الجوهري،‭ ‬والألق‭ ‬الداخلي‭ ‬لكتلة‭ ‬الوجع‭ ‬الخاص،‭ ‬لعلها‭ ‬مدرسة‭ ‬أدبية‭ ‬جلفارية‭ ‬ضاربة‭ ‬الجذور‭ ‬والجينات،‭ ‬يتعذّر‭ ‬تحديد‭ ‬مبتدئها،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تغفلها‭ ‬الدراسات‭ ‬الحديثة،‭ ‬إذ‭ ‬بدأت‭ ‬تتشكّل‭ ‬كقوة‭ ‬حيّة‭ ‬مندفعة‭ ‬من‭ ‬السلالات‭ ‬نحو‭ ‬المستقبل،‭ ‬على‭ ‬البحر‭ ‬والهواء‭ ‬والقاع‭ ‬والطّيف‭ ‬والأهواء،‭ ‬تلامذتها‭ ‬أبناء‭ ‬الزّمن‭ ‬وعروقه،‭ ‬وقد‭ ‬يلحظ‭ ‬ذلك‭ ‬القارئ‭ ‬البعيد‭ ‬حينما‭ ‬يقترب‭ ‬من‭ ‬رسم‭ ‬ملامح‭ ‬عامة‭ ‬عن‭ ‬الأدب‭ ‬الإماراتي‭ ‬المعاصر،‭ ‬فيخصص‭ ‬دفقاً‭ ‬هائلاً‭ ‬من‭ ‬السبر‭ ‬القرائي‭ ‬لكُتّاب‭ ‬جلفار،‭ ‬فثمة‭ ‬من‭ ‬يحتويه‭ ‬حس‭ ‬سريّ‭ ‬هائج‭ ‬وغامض‭ ‬ومتجسّد،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حضور‭ ‬فاعل‭ ‬لما‭ ‬يتلامح‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬واضح‭ ‬مع‭ ‬الأفق‭ ‬الملحميّ‭ ‬الحدسيّ‭.‬

لماذ‭ ‬تراقصهم‭ ‬الرّموز‭ ‬الأسطورية،‭ ‬وتحرّك‭ ‬فضاءاتهم‭ ‬عوالم‭ ‬تعانق‭ ‬المُطلق‭ ‬وأزمنة‭ ‬غائرة‭ ‬ونائية؟

ما‭ ‬تلك‭ ‬الروح‭ ‬التي‭ ‬يمتزجون‭ ‬بها؟‭ ‬على‭ ‬الأغلب‭ ‬تكون‭ ‬روحاً‭ ‬طليقة‭ ‬مقسّمة‭ ‬بين‭ ‬السماء‭ ‬والماء،‭ ‬بين‭ ‬العبور‭ ‬والبقاء،‭ ‬بين‭ ‬القسوة‭ ‬والحُب،‭ ‬بين‭ ‬الانكسار‭ ‬والفرح،‭ ‬بين‭ ‬العزلة‭ ‬والتجلّي‭ ‬على‭ ‬مدد‭ ‬صوفيّ‭ ‬وحنايا‭ ‬ينابيع‭ ‬شعرية،‭ ‬بقيت‭ ‬متوارية‭ ‬خلف‭ ‬الأبد‭! ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يجعلهم‭ ‬يكبرون‭ ‬داخل‭ ‬أمواج‭ ‬لغة‭ ‬إيحائية‭ ‬عامرة‭ ‬بنبض‭ ‬المعاناة؟‭ ‬ورغبات‭ ‬الانتصار‭ ‬للحياة‭.. ‬للبقاء؟‭ ‬أقول‭: ‬لعل‭ ‬سر‭ ‬الوعي‭ ‬الجمعي‭ ‬لدى‭ ‬كُتّاب‭ ‬جلفار‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المُبتدأ،‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬الطين‭ ‬والحجارة‭ ‬والهواء،‭ ‬وما‭ ‬بينها‭ ‬من‭ ‬تشكُّلات‭ ‬الأرخبيل‭ ‬الخليجي،‭ ‬من‭ ‬بداية‭ ‬اجتياز‭ ‬البحّارة‭ ‬ذلك‭ ‬المدخل‭ ‬الملاحيّ‭ ‬بَعْدَ‭ ‬المضيق،‭ ‬ثم‭ ‬الاتساع‭ ‬على‭ ‬الأزرق‭ ‬الممتد‭ ‬بنوستالجيا‭ ‬الغوص،‭ ‬ورائحة‭ ‬الأخشاب‭ ‬والسّفن‭. ‬يكمن‭ ‬السرّ‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الأثر‭ ‬الماورائي،‭ ‬والتردد‭ ‬الأخاذ‭ ‬الذي‭ ‬ينبعث‭ ‬من‭ ‬العدم،‭ ‬من‭ ‬المدافن‭ ‬والشواهد‭ ‬القديمة،‭ ‬من‭ ‬علوّ‭ ‬الجبال‭ ‬والكهوف،‭ ‬ومدارات‭ ‬السائلين،‭ ‬وأثر‭ ‬خطى‭ ‬القوافل‭ ‬الجامحة‭ ‬في‭ ‬عبورها‭ ‬واجتيازها‭ ‬المضيق،‭ ‬ويكمن‭ ‬سحر‭ ‬شاعرية‭ ‬النظرة‭ ‬إلى‭ ‬الأفق‭ ‬وما‭ ‬وراءه،‭ ‬إلى‭ ‬الجغرافيا‭ ‬المتداخلة‭ ‬بين‭ ‬أنسجة‭ ‬تضاريسية‭ ‬ذكورية‭ ‬وأنثوية،‭ ‬حنونة‭ ‬ومَهيبة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭. ‬ثم‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬الأرض‭ ‬كفيلة‭ ‬بحفظ‭ ‬تردد‭ ‬الطاقات‭ ‬التي‭ ‬سعت‭ ‬نحو‭ ‬الإنسانية‭ ‬والاكتشاف،‭ ‬فعلى‭ ‬الوجهة‭ ‬الرملية‭ ‬الصحراوية‭ ‬الخصبة‭ ‬تؤتمن‭ ‬رمال‭ ‬رأس‭ ‬الخيمة‭ ‬على‭ ‬سيرة‭ ‬روحية‭ ‬لعظام‭ ‬القصيدة‭ ‬في‭ ‬ضاحية‭ ‬االخرّانب،‭ ‬حيث‭ ‬ينام‭ ‬في‭ ‬الأبدية‭ ‬الشاعر‭ ‬الماجدي‭ ‬بن‭ ‬ظاهر،‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬ولّد‭ ‬سؤال‭ ‬التأسيس‭ ‬الإنساني‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬الخلاق‭. ‬ناهينا‭ ‬عن‭ ‬الوجهة‭ ‬البحرية،‭ ‬حيث‭ ‬سيرة‭ ‬الملاح‭ ‬الفلكيّ‭ ‬الشاعر‭ (‬شهاب‭ ‬الدين‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬ماجد‭) ‬الحيّ‭ ‬في‭ ‬الماء‭ ‬والأشياء‭ ‬على‭ ‬جلفار،‭ ‬رديف‭ ‬السفر‭ ‬والفضول‭ ‬والاكتشاف‭.‬