تنداح‭ ‬ذاكرتي،‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬الشتائية‭ ‬الحنونة،‭ ‬نحو‭ ‬ذلك‭ ‬الزائر‭ ‬الأبيض‭. ‬في‭ ‬الشتاءات‭ ‬الأولى،‭ ‬كان‭ ‬الغيم‭ ‬الثقيل‭ ‬يتكتل‭ ‬على‭ ‬قمم‭ ‬جبال‭ ‬الحجر،‭ ‬في‭ ‬أقصى‭ ‬شمال‭ ‬إمارة‭ ‬رأس‭ ‬الخيمة؛‭ ‬لينفض‭ ‬عنه‭ ‬الثلج‭ ‬المكثّف،‭ ‬فتدخل‭ ‬الحرارة‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬انهيار‭ ‬إلى‭ ‬الصفر‭ ‬وما‭ ‬دونه‭. ‬الزائر‭ ‬الأبيض،‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬كسوة‭ ‬جبال‭ ‬الحجر،‭ ‬كان‭ ‬يلمع‭ ‬تحت‭ ‬الشمس‭ ‬بعد‭ ‬انسحاب‭ ‬الأفق‭ ‬الرمادي،‭ ‬مستثيراً‭ ‬فينا‭ ‬هيبة‭ ‬وحيرة‭ ‬شعرية،‭ ‬وانتعاشة‭ ‬براءة‭ ‬السؤال‭ ‬الوجودي‭ ‬القديم‭: ‬‮«‬من‭ ‬أين‭ ‬أتى‭ ‬هذا‭ ‬الجبل؟‭ ‬ثم‭ ‬أين‭ ‬يذهب‭ ‬خزّان‭ ‬الثلوج؟‭ ‬هل‭ ‬يتسرّب‭ ‬إلى‭ ‬البحر‭ ‬ويتحول‭ ‬إلى‭ ‬غول‭ ‬مائيّ؟‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬يذوب‭ ‬بين‭ ‬ثقوب‭ ‬ومسامات‭ ‬الصخور‭ ‬ليعود‭ ‬حياً‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬مارد‭ ‬مائي‭ ‬عملاق،‭ ‬يسكن‭ ‬أكبر‭ ‬نبع‭ ‬في‭ ‬القرية؟‮»‬‭.‬

لن‭ ‬ننسى‭ ‬ذلك‭ ‬المشهد‭ ‬الذي‭ ‬نفتقده‭ ‬الآن‭. ‬ومنذ‭ ‬سنوات،‭ ‬كان‭ ‬المشهد‭ ‬مُحرّضاً‭ ‬على‭ ‬بدء‭ ‬القيام‭ ‬برحلة‭ ‬تحدٍّ‭ ‬وتجاوز‭ ‬عتبة‭ ‬الصبر‭ ‬ومشقة‭ ‬الصعود‭ ‬نحو‭ ‬الإصغاء‭ ‬لحقيقتنا‭ ‬العلوية،‭ ‬والتوغل‭ ‬البحثيّ‭ ‬عن‭ ‬المنبع‭ ‬الخفيّ،‭ ‬نربط‭ ‬بين‭ ‬أغصان‭ ‬وضلوع‭ ‬أشجار‭ ‬المِيز‭ ‬تمائم‭ ‬الأمهات‭ ‬ونبوءاتهن،‭ ‬ونستثمر‭ ‬طلاسم‭ ‬الحكايات،‭ ‬التي‭ ‬تفيض‭ ‬عبر‭ ‬الزمن‭ ‬في‭ ‬الوديان‭ ‬والمضيق،‭ ‬منسدلة‭ ‬بين‭ ‬الريح،‭ ‬والأضرحة،‭ ‬والكهوف،‭ ‬ورائحة‭ ‬الأكفان،‭ ‬والشواهد‭ ‬الذائبة‭ ‬في‭ ‬الحجر‭.‬

من‭ ‬أعالي‭ ‬قمم‭ ‬جبال‭ ‬الحجر،‭ ‬إلى‭ ‬الشعاب‭ ‬المرجانية‭ ‬تحت‭ ‬مياه‭ ‬الخليج،‭ ‬تتشكّل‭ ‬زاوية‭ ‬النظر‭ ‬الفريدة،‭ ‬ونداءاتنا‭ ‬العابرة‭ ‬لموّال‭ ‬البحر،‭ ‬وأعشابه،‭ ‬وحركة‭ ‬أخشابه،‭ ‬نحاول‭ ‬التشابك‭ ‬مع‭ ‬غيوم‭ ‬الطرق‭ ‬المحتضنة‭ ‬نتوءاً‭ ‬جبلياً‭ ‬شاهقاً،‭ ‬ونغامر‭ ‬مع‭ ‬الرعاة‭ ‬بأغنامهم‭ ‬خلف‭ ‬مدرجات‭ ‬‮«‬الوعوب‮»‬،‭ ‬وحقول‭ ‬القمح‭ ‬والشعير‭ ‬بين‭ ‬الأخاديد،‭ ‬حيث‭ ‬تتلون‭ ‬خيالات‭ ‬العطش‭ ‬والعرق‭ ‬والتعب،‭ ‬وتسافر‭ ‬الرغبة‭ ‬المحمومة‭ ‬بالهروب‭ ‬عبر‭ ‬التفاصيل‭ ‬المتصلة‭ ‬والمنفصلة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوجود‭ ‬الزمني‭ ‬المبهم‭ ‬في‭ ‬الصخور،‭ ‬نحاول‭ ‬أن‭ ‬نقرأ‭ ‬تاريخنا‭ ‬في‭ ‬سجل‭ ‬صخري‭ ‬جرفته‭ ‬السيول،‭ ‬ونضع‭ ‬فرضيات‭ ‬الطوفان‭ ‬القديم‭ ‬الذي‭ ‬صدّع‭ ‬العالم،‭ ‬وهيّج‭ ‬حركة‭ ‬الصفائح‭ ‬من‭ ‬القاع‭ ‬العميق‭ ‬الهائج‭ ‬بالتيارات‭ ‬السوداء‭.‬

من‭ ‬دهشة‭ ‬الجبل‭ ‬يولدُ،‭ ‬تدريجياً،‭ ‬منظر‭ ‬أبجدي‭ ‬للخرافة‭ ‬البديعة‭ ‬للحجر‭. ‬ومع‭ ‬مرور‭ ‬الأزمنة،‭ ‬يواصل‭ ‬الإنسان‭ ‬تكوّنه،‭ ‬محتمياً‭ ‬وحامياً‭ ‬وحالماً،‭ ‬مشكّلاً‭ ‬إرثاً‭ ‬عريقاً‭ ‬متفرداً‭ ‬ومتأصلاً‭ ‬في‭ ‬الوجود‭!‬