أُمّنا التي.. كلما خفنا من الفيضان، ورأينا السّيل داخلاً في المنام من باب القرية، ترمي خاتمها الذهبي في الماء، وتقول: اشربوا، ليهدأ الفؤاد من الذعر. 

فنشرب ماء الأرض من كفها.. ونطمئن. 

أُمّنا التي لا تموت، طين لامع بين شمس السهول، أرض كبرى.. تلد النخل والبحر والملح، وتقول (الحقيقة)/‏ وحدها الحقيقة تتجسّد على الأرض على شكل الأمهات. 

أُمّنا التي أهدتنا الأسماء.. أهدتني اسماً من سلالة بحار قديم، محار قديم، غمست قدميّ في طبق الزعفران، ثم مرت على الحواف الأربع للأرض، على كل حافة كان لي موطئ قدم من زعفران.

جهزت ذات صباح رسالة إلى الجدات على ساحل بعيد، لم تكن الرسالة تحوي سوى جملة واحدة، واسم واحد: بسم الله، ثم الاسم اسمي، والخبر عن مولدي، وتغميسة قدمي اليمنى على الورقة.. والكثير من رائحة الزعفران.. الكثير من رائحة جلفار. 

أُمّنا التي تبحث كل مرة عن فجوة في جدار البيت، تُودِع فيها أسناننا اللبنية، وتأمر أبي بصنع فجوات كثيرة تحفظ فيها شعورنا المتساقطة وأظافرنا، وحين يأتي الزائرون، تفخر أمي بما تحويه الفجوات، تقول إنها أغلى ما تملك في هذا البيت. وهي اليقين الوحيد الذي سيربط بيننا إلى الأبد. 

يموت أبي.. تكبر الفجوات في مواسم الأمطار.. وتنمو في الوديعة الجدارية: (أظافرنا وأسناننا اللبنية) أشجار تنمو وأشجار.. وحقول من الدّم الواحد.

أُمّنا.. شجرة الحناء في وادٍ مُقدّس بعيد، بين رؤوس الجبال ونقوشها المنسية ومدافن الأسلاف، تحت ظلالها وبين أغصانها تربط الفتيات نذورهن بمناديل الشوق، ومحنة الأحلام، والخوف من المجهول.

أُمّنا.. مهدنا الأول.. المد العفوي لحقول أشجار القرم.. سباحتنا الحرّة في خريطة الماء، موج «يناغي» الساحل، سماء تغسل التلّ الساحلي، تهويدة آمنة المنصوري حين تعبث بالأفكار والذهن الشارد، وتشرح النفس.

الأرض كلها واحدة في رائحة الرّواء، مثلما كل روائح الأمهات في جلفار.. واحدة. 

أُمّنا وحدها من كانت تشكل حراك الفطرة في السكون الغزير، غمرة ارتفاعنا وفرح طيراننا فوق بحيرات الحليب، حيث كان الصمت عظيماً في الأرض البيضاء، الأرض الباردة، لا شيء سوى أحواض الملح والرياح العابثة، وضباب الغابات السحيقة، والهباء الشارد في درجات هشة على المحيطات العُظمى.

أُمّنا يا إلهي.. أُمّنا هناك.. حين تقرر يا إلهي فناء البشر، اترك على الأرض أمّنا، اتركها تعيش.. اترك شعرها الطويل يروي السهول والشّعاب وظلال الظهيرة، وحين تتحد الكواكب اتركها تغمس قماطنا بالزعفران والمياه، اتركها يا إلهي تروي بحليبها أرض جلفار العظيمة.

(الأم المُحبَّة لا تموت، تتحول إلى نخلة في البلاد، ولا يتيتّم أولادها، يرتفعون مع النسور، يحلّقون على رؤوس الجبال).