لا لم أكبر يا أمي!

لا تصدقي هذه الشعيرات البيضاء، التي تتسلل ماكرة وسط شعري الداكن..

ولا هذه الخطوط الدقيقة، التي وجدت مأواها جوار عينيّ..

ولا هذا الحزن العجوز، الذي رأيته يكبر يوماً يوماً على أهدابي..

بل صدقي هذه البسمة على شفتيّ، وأنا أفض غلاف الشيكولاتة؛ فأتذكر أنها نوعك المفضل..

صدقي طلاء أظافري، وأنا أضعه بدقة بهذا اللون الذي امتدحتِه أنتِ يوماً قائلة: «أنيقة كأمك»..

صدقي صوت خطواتي وأنا أركض متلاحقة الأنفاس في الطريق الطويل، أطمع فقط في سماع تصفيقك آخره.. حتى لو كان هذا الآن ضرباً من خيال!

صدقي لهفة أناملي، وهي تجد الجرأة، أخيراً، لتتناول «إبرتين معدنيتين» كانتا يوماً لك مع «بكرة الصوف» لتكمل ما كنتِ تغزلينه!

«لا أحب ارتداء مغزولاتك الصوفية.. تضخمني وتشعرني بوزني الزائد».. كنت أقولها لكِ متذمرة، فتبتسمين ابتسامة لم أكن أفهم معناها، وأنتِ تكملين غزْلك، قائلة: «أبقيها فقط في خزانتك.. لعلكِ يوماً ما..»!

لم تكوني تكملين العبارة، لكنني اليوم أفهمها كما فهمت معنى ابتسامتك..

أفهمها وأنا أطالع صورتي في المرآة فأبصر واحدة تشبهك.. لا.. ليست بجمالك، إنما بهالة حضورك.

أفهمها وأنا أعد الطعام الذي طالما كنت أتفنن في صنعه بطرق مختلفة عنك كي أثبت لكِ مهارتي.. والآن أعده بطريقتك.. البسيطة جداً.. البدائية جداً.. واللذيذة جداً جداً فأعترف - غير كاذبة - بأنه لا أمهر منك.

أفهمها وأنا أجرب مع أولادي كيف يكون صراخ الغضب أعظم اعترافات الحب.. كيف يكون الحرمان - أحياناً - هو الصورة الفضلى للعطاء.. كيف تخفي النظرة الزاجرة كثيراً ذراعين من القلب يعانقان دوماً فلا ينفصم تشابكهما أبداً.. وكيف يمكن أن يحب أحدهم غيره أكثر مما يحب نفسه.. وكيف لا؟! وهو يراه بعض روحه تسربت منه لتسير على قدمين غير قدميه. 

أفهمها وأنا أبدأ غزل الصوفِ كما علمتِني أنتِ.. دموع اشتياقي إليكِ تشوش نظراتي لكنها لا تفسد تراصّ «الغُرَز» كأنما تلبستني روح مهارتك..

تراني ابنتي؛ فتتأفف متذمرة لتهتف أنها لن ترتديه فأضحك وأنا أقترض عبارتك.. كما اقترضت منك كل جميل..

«قد يمنحكِ شعوراً زائفاً بالضخامة.. لكن الضخامة الحقيقية ستجدينها في شعور آخر.. هاهنا).. 

أشير بها إلى قلبها؛ فتبتسم دون اكتراث لتتركني.. وأستمر في الغزل! 

يوماً ما سترتديه كما ارتديت أنا ما غزلته أمي.. سيدفئها كما دفأني.. ينير وجهها كما أنار وجهي.. يشير لها نحو الطريق فتتبعه خطواتها مسترشدة.. من قال إن الأمهات يمتن؟! كيف وتحت أرجلهن جنة تتعمق فيها الجذور كلما تشعبت الغصون، وأزهرت الأوراق؟! كيف وفي أيديهن الكتب التي لا ينضب مدادها أبداً؟! كيف وفي أرواحهن السحر الذي تجدل به ضفائر البنات جيلاً بعد جيل؟! كيف وهن يُجِدْن الغزل كأمي؟!