سمعت عن «زمّار هاملين»؟! 

قصة قديمة عن رجل غامض ظهر في بلدة هاملين الألمانية، حيث كان يرتدي ملابس ملونة ومختلفة الشكل، وبدا واثقاً بقدرته على تخليص البلدة من الكمّ الهائل من الفئران التي هاجمت البلدة، وأزعجت سكانها؛ لذا أجرى اتفاقاً بينه وبين عمدة هاملين على تخليص البلدة من الجرذان مقابل مبلغ مالي محدد.

بدأ زمار هاملين في تنفيذ الاتفاق فعلياً دون تأجيل؛ حيث أخرج من ملابسه مزماراً صغيراً ليعزف عليه الموسيقى، قبل أن يفاجأ سكان البلدة - في التوّ واللحظة - ببدء خروج الفئران من المنازل؛ لتتبع مزمار هاملين أينما توجه.

استغل زمار هاملين الأمر؛ فقام بالسير باتجاه نهر فيزر، بل ورفع ملابسه قليلاً ليسير في مياهه أثناء العزف، لتتبعه الفئران دون توقف، وتغرق جميعها في النهر، وينجح الزمار فعلياً في تنفيذ جانبه من الاتفاق المبرم، إلا أن العمدة وسكان هاملين كان لهم رأي آخر في ما بعد؛ إذ بدؤوا في التملص من الاتفاق من أجل عدم دفع أجر الزمار؛ ما أصابه بالحسرة والندم، وولد بداخله الرغبة في الانتقام.

غاب زمار هاملين لفترة قصيرة من الوقت، قبل أن يعود من جديد؛ حيث كان يوم الاحتفاء بذكرى جون وبول القديسين اللذين عاشا في الإمبراطورية الرومانية، إلا أن عودة الزمار لم تكن بغرض الاحتفال بل للانتقام؛ حيث ارتدى زي الصياد مدعوماً بقبعة حمراء؛ ليعزف من جديد على مزماره، لكن تلك المرة لاستدعاء الأطفال وليس الفئران!

جذبت موسيقى زمار هاملين الكثير من أطفال البلدة، ومن بينهم ابنة العمدة، حيث تتبعوه كما تتبعته الفئران من قبل، حتى وصلوا إلى أحد الجبال؛ ليختفي الأطفال منذ ذلك الحين، ومعهم الزمار، كأن أحد كهوف الجبل أطبق على الجميع إلى الأبد. 

نجح الزمار في انتقامه!.. فـ(المزمار) الذي صاغ، يوماً، لحن (النجاة).. هو هو الذي عزف لحن (الهلاك). 

أتذكر هذه القصة كثيراً؛ عندما يجلدني سوط الغدر.. أتذكر - بحسرة - كل ألحان العطاء، التي عزفها مزماري.. وكيف كانت أناملي تجيد ملاعبة ثقوبه؛ لينبعث اللحن المميز.. تتبعه فئران آلامهم؛ لتغرق في النهر الذي بلل ثيابي؛ فلم أهتم ماداموا هم على شاطئه آمنين! 

وكيف بعدها زهدت آذانهم لحني.. لتصير ثقوب مزماري كفجوات كهوف باردة.. تعيّرني بحماقتي، وخذلانهم. 

يدور الزمان.. ليمنحني فرصة الانتقام، وبالمزمار نفسه! 

تنتشي ثقوبه.. تتضخم.. تراها عيناي (فوهات بركان) مشتعلة، تعدني بثأر يبرّد نيران القلب الكسير.. 

تتلاعب أناملي عليها تتهيأ للعزف.. لكنني أتذكر.. 

قهوة الانتقام الباردة لا تلائم امرأة حارة المزاج مثلي.. القلب الذي وجد خريطة كنز السكينة لن يعود إلى متاهات الحقد.. والنصل الذي قطع حبل السفينة؛ ليطلقها حرة في بحر عطائها، لن يتلوث بدماء الانتقام.. 

هنا فقط تتحول ثقوب المزمار إلى شموس متلألئة، تلقي أشعتها على ما بقي من ظلمة القلب..

عاشت! عاشت ألحان العطاء رائقة بأنغام العفو.. ولا مكان بينها لـ(نشاز) نغمة الانتقام.