لأن الفن هو الذي يفاجئ الواقع، فاجأتنا تُحفه وأدهشتنا. فهو مبدعٌ أتقن القواعد كمحترف، وكسرها كفنان، وجعلنا نقف في ذهول أمام كلّ ما صنع. قيل عنه: هذا هو الرجل الحديدي، الذي طوّع الجماد وجعله يتكلم. فردّ: «هذا من فضل ربي.. ثم جدتي». تحدى نفسه والتقليد والنقل «الببغائي»، وعمل بأسلوبٍ استثنائي، دامجاً حروف اللغة العربية والشعر والآيات القرآنية في «تحف» تكاد تنطق.. كل شيء حول فنٍّ تميّز بطابع عربي وإسلامي، بأسلوبٍ فيه من الحداثة الكثير، في هذا الحوار مع مبتكرهِ الفنان اللبناني المبدع إياد نجا:

قصدنا منزله في حيٍّ سكني ذي طابع تراثي في بيروت. كل شيء في التفاصيل يوحي بأننا لسنا أمام فنان تقليدي حتى لو كان فنّ استخدام الحرف العربي في الفنون من العصور الغابرة. نصغي إليه وهو يتحدث بشغف، من دون أن تغيب الابتسامة لحظة عن محياه. يستخدم مرادفات كثيرة باللغة الإنجليزية. فهو ولد في لبنان، وترعرع بين أفريقيا وإنجلترا، قبل أن يعود مجدداً إلى لبنان ويدرس التصميم الغرافيكي، ولاحقاً الفن والعمارة الإسلامية.

نسأله عن بداياته، فيُحدثنا عن جدته «نازك أدهمي» التي هي البداية والذكرى وكل الحب. فما حكايتها؟ يجيب: «كانت جدتي (ست الستات)، تكتب الشعر وتُدرّس الأدب العربي، وكان بيت جدي جامعاً للمثقفين الذين يغوصون في الشعر والنثر والأدب. لكن، بعد انفصال والدي ووالدتي وأنا بعمر ثماني سنوات نقلني والدي إلى أفريقيا ثم إنجلترا. ابتعدت كثيراً ثم رجعت بعمر المراهقة. توفيت جدتي وبعد عشر سنوات من ذلك صنعتُ أول عمل لي مستخدماً جملة من الشعر الذي كتبته. صنعتُ قطعة إنارة واستخدمت الحرف العربي في إنجازها واخترت عبارة: (طال انتظاري). أحببتُ هذه العبارة كثيراً لأنها كانت ترددها أمامي في كل مرة ألتقيها، قائلة: (طال انتظاري يا ربيع عمري، يا فلذة كبدي)». 

 

الجمال هدف

نجول بين قطع أثاث موقعة باسم: إياد نجا. ونترك له أن يُخبرنا عنها وعن تلك الطاولة التي ظهرت في معرض «إكسبو 2020 دبي»، والتقى حولها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، ورئيس وزراء إسبانيا بيدرو سانشيز! يجيب: «صنعتُ منها أربع أو ست طاولات، وجعلتها تحاكي بنقوش نحاسية خط الثلث العربي بعبارة مكتوبة بالخط العربي: (عِشرةٌ لن ننساها؛ فأنتم من صانها وأحياها)». ويستطرد: «ما يهمني، دائماً، أن تُحترم القطع التي أنجزها، أفرح حينما أراها بين أيادٍ أمينة، أفرح كثيراً في كل مرة أنظر إلى قطعة منجزة، وأنظر إليها كأنها أول مولودة لي، هي طفلتي، هي جزء من روحي». 

آيات قرآنية مختلفة وأحرف عربية وأبيات شعر ونثر، باتت جزءاً من قطع أثاث أنجزها الفنان إياد نجا. فالذي يختار العبارات، هو: الزبون؟ طبيعة المكان؟ الخطاط؟ وأيهما يسبق اختياره: العبارة أم شكل القطعة؟.. يجيب «إنهما يتكاملان، أجلس مع من يريد امتلاك القطعة، أتعرف إليه، أعرف ما إذا كان يريد خطاً رفيعاً أو سميكاً؛ لأن عدد الأحرف كلما سمُك الخط يقل. وغالباً نختار الكلام بحسب القطعة المصممة؛ لأن القطع - في الأغلب - توضع كديكور، ويكون الهدف الجمالي منها أولوية». هنا يستطرد بالتذكير بأن «الكتابات التي توضع في أماكن مرتفعة لا تكون الغاية منها قراءة ما كتب، بقدر شكل تداخل الحرف العربي، وتشكيلاته مع التصميم الجميل».

صحيح كل ذلك، لكن، يفترض - بحسب نجا - الجمع قدر الإمكان بين المعنى والمبنى. فيقول: «تحظى الكلمة المكتوبة بتقدير كبير، ومثلها الخط العربي لارتباطه بتدوين النصوص في الحضارة الإسلامية، لكن حينما نستخدم هذا الخط في تحف مختلفة؛ يكون هدفنا أيضاً إمتاع الناظرين إليها». 

ثلاثة أنواع

نقرأ في الكلمات ما له معنى وجمالية، ويُشعر القارئ - المأخوذ بجمالية الشكل - بعمق المضمون. نقرأ على مرآة عبارة: «أنت في داخلي صورة من الفن الصافي وفي كل انعكاس منك تعود الحياة لأطيافي». نكاد نشعر ونحن ننظر ونقرأ بأن المرآة تغازلنا. نعود ونقرأ على تحفة أخرى دعاء: «اللهم إني أسألك الجنة وأستجير بك من النار».. كم هو جميل بالفعل كل ما حولنا. ننظر إلى الفنان؛ فنشعر بسكينة وطمأنينة عميقتين في داخله.

صحيح أن الخط العربي قديم لكن أسلوب نجا مختلف وحديث، فقد رفض - منذ البداية - التقليد واختيار ما برع به الأجداد والاستعانة بفن المماليك والرومان والعثمانيين والعباسيين، بل أراد أن يستعين بالخط العربي في أعمال عصرية، وإيصال الفكرة بدل الإملاء نسخة طبق الأصل.

يُحدثنا عن الخط الغباري وخط الثلث والخط الكوفي، نسمعه يحدثنا عن جمالية الأحرف، وكيفية توظيفها واستخدامها. نصغي إليه وهو يُحدثنا عن أهمية إجراء الأبحاث الخاصة عند إجراء أي عمل. ويقول: «هناك ثلاثة أنواع جرت من أجل إبقاء تراث الخط العربي حياً: أولها نقله كما هو وتقديمه على سبيل المثال لا الحصر على حبة أرز أو من خلال الكتب القرآنية. أما ثانيها فهو ما أنتمي إليه حيث نأخذ القواعد من دون أن نتخلى عن إدراكنا للأشياء المعاصرة ونغربل بين ما هو قديم وما هو جديد. وثالثها يُشكل الفئة التي ترسم الخط العربي على وسادات على سبيل المثال». ويستطرد: «أنا من فئة تعرف القوانين والقواعد، وتتعمق في دراستها من دون كسرها أو نقلها كما الببغاء، بل لتعزيزها وإضفاء سمة الحداثة عليها».

السواد والبياض

أنجز إياد نجا مجموعته المسماة «بيروت»، ويستعد اليوم لإطلاق مجموعته الجديدة «أبلق». والأبلق مصطلح لغوي عربي فصيح، يعني السواد والبياض في اللون. وهذا الفن نوع من الفنون الهندسية، التي ارتبطت بالعمارة الإسلامية القديمة. فنراه يُشرف على الأبحاث التي تُجرى استعداداً، واضعاً ملاحظاته وكثيراً من حسه الفني وشغفه. فهو يتابع كل عمل من الألف إلى الياء، كأنه مولوده الأول. 

يتحدث نجا عن بلاد وناس يعرفون قيمة ما يمتلكون من هوية وجذور، هؤلاء هم من يعرفون قيمة توظيف الخط العربي بأعمال الديكور والمفروشات. نراه يستخدم الحديد ويُطعّمه بالنحاس، ويستخدم الرخام ومواد يقدر على تطويعها من جماد إلى جماليات، فهو عاشق الحرف العربي، وعاشق الشعر العربي، وعاشق حياكة القطع التي يحيكها بالقلب أولاً؛ فتُصبح تحفاً تحكي لنا ألف قصة وقصة. هو من نجح في تحويل روائع الشعر إلى ما هو ملموس، ونجح في تطويع الحديد وجعله يلين.. هو الشاب إياد نجا الذي يستحق صفة «فنان».    

قبل أن نغادر.. نقرأ على مجسم مذيل باسمه بفن الخط العربي الجميل: «حتى لو لم تكن مستعداً للنهار، لا يمكن أن يكون الليل دائماً». هو وثق بذلك.. ونحن نثق!