وجد ألبرت آينشتاين سعادته، من خلال «طاولة وكرسي ووعاء من الفاكهة وكمَان». أما أرسطو فوجدها في «معنى وهدف وغاية». في حين وجدها بابلو كويلو «في شخص يسأل عنك كل يوم». الشابة السعودية آلاء العقيل بحثت، هي أيضاً، عن سعادتها، ووجدتها في رحلة، في أعماقها، في عمقِ أعماقها، في الألوان والرسوم والفنون. ورحلتُها تلك تستحقّ الاكتشاف والسؤال والجواب، بعدما أصبحت - بدَوْرِها - تعالج، من يبحث عن سكينة وراحة وسلام داخلي وسعادة، بالفن.. ألا يقال: «من يحصل على السعادة؛ عليه أن يُشرك الآخرين بها؟». 

بهدوءٍ لافتٍ، وبعينين واثقتين جذابتين عميقتين، وبصوتٍ ناعم يتماهى مع وقعِ موسيقى هادئة، تتكلم مع من يشاركونها رحلة البحث عن الراحة الداخلية والسلام. تدعوهم إلى إغلاق عيونهم، وأخذ نفس عميق.. عميق جداً.. والبقاء هادئين.. ثم العودة إلى أنفسهم، إلى دواخلهم، إلى أجسادهم، وإلى الأمكنة التي يحبون. وبصوتٍ خافت وموسيقى مختارة بعناية شديدة، تسألهم عن الإحساس الذي يجتاحهم الآن؟ عن شعورهم الصادق؟ وتطلب منهم أن يفتحوا أعينهم، ويُمسكوا بأقلامٍ، ويبدأوا رسم انفعالاتهم وأحاسيسهم. هي لحظات تتصلّ فيها بمشاعر كل من حولها؛ فتنقذهم من حالٍ سقطوا فيها، من جمودٍ وروتين، وتخرجهم رويداً رويداً إلى الحرية.

تقول آلاء عن بدايات التجربة التي عممتها؛ فاستحقّت الثناء: «اسمي آلاء العقيل، سعودية، من الرياض، ولدتُ في عائلة تُقدّر الفنون. شقيقاتي يرسمن، ودعمتني العائلة، بكل أفرادها، دائماً. عشقتُ منذ صغري الفنون، ورغبتُ - منذ وعيت - البحث عن كل ما له قيمة في داخل الإنسان، وفي محيطي، وفي كل مكان. بدأتُ أشارك في معارض الرسم بالمدرسة. كنت أرسم الوجوه، و(البورتريه)، وشاركتُ في معارض رسم عدة بالمملكة العربية السعودية، ولاحظتُ أن الناس، يدعمونني، وهذا ما شجعني على المضي قدماً؛ فنويتُ أن أتعلم أكثر، وأن أبحث أكثر، وأن أتحرك أكثر».

جميلة هذه البداية لصبيّة لديها إحساس عالٍ. لكن، ما الذي ميزها؟ ما الذي ميّز فنّ آلاء العقيل؟ تجيب: «هو إصراري، ربما على جعل من يتمعنون في رسوماتي يشعرون بها بكلِّ حواسهم. استخدمتُ حبات القهوة في بعض لوحاتي، وجعلت من ينظر إليها، يشعر كأنه يتنشق رائحة البن، ويرى ألوان القهوة. دونتُ بحبوب البن أسماء وألواناً وكلمات. وأتحتُ للناظرِ أن يتعمق فيها، محاولاً قراءتها والتفاعل معها. وكلما تفاعل أحدهم مع أي قطعة يكتشف أكثر. وكلما نجح في اكتشاف؛ توغل في ذاته أكثر».

 

 

 

البحث عن السعادة

انطلقت آلاء العقيل تبحث - في ما ترسم - عن السعادة، فهل وجدتها؟.. تقول: «بحثتُ عن السعادة وعن الوعي والروحانيات وعمق التفكير. وحينما بدأتُ في اكتشاف مدى تأثير كل رسم فيَّ، وفي حياتي رحتُ أسأل نفسي: لماذا لا أنجز عملاً جديداً يسهم في الإضاءة على مشاعر من هم حولي، وعلى كل من يريد بالفعل أن يتغيّر، عملاً يساعد الأشخاص على الخروج من (المكان الجامد) الراسخ في قرارة أنفسهم، ويتيح لهم التفكير بعمق. وهكذا أنجزت، عام 2017، القطع الثلاثية التي ترمز إلى السلام الداخلي الثلاثي: الروح والنفس والجسد. عملتُ عليها طوال عام كامل. رسمتُ الكثير، ومزقتُ ما رسمت مراراً وتكراراً. وتركتُ قطعاً فيها أسرار.. كل رسم يحكي بذاته».

ماذا عن رحلة آلاء العقيل الشخصية، بحثاً عن السعادة والسلام الداخلي؟.. تجيب: «كنتُ أبحث عن السعادة، وأسأل نفسي: من الأشخاص السعداء؟ هل هم من ينجحون في الدراسة؟ في العمل؟ في المجتمع؟ هل هم الأشخاص الذين يملكون مواهب وخصالاً معينة؟ اعتبرت - في بداياتي - أنني كنتُ أعمل وأدرس وأملك موهبة الرسم وفاعلة اجتماعية، وهذا يُعزز فرضية أن أكون سعيدة. لكنني استمررتُ أسأل عن السعادة. واكتشفتُ، لاحقاً، أن الأشخاص الذين يصغون إلى أجسادهم، ويهتمون بصحتهم، ويبتكرون في الأفكار والأعمال هم أكثر سعادةً من سواهم، فدخلت - من خلال حالة الوعي - في ممارسات من شأنها أن تسعدني. بدأتُ ممارسة الرياضة، وتناول المأكولات الصحية، والصلاة، والروحانيات. وشعرتُ بالفعل بالسعادة. لكن، مع الوقت أيقنت بوجود شيء ما أكثر بعداً وشمولية؛ فبدأتُ أتعمق أكثر في الأمور والأشياء، وفي فهم الحياة من منظور أعمق. قويتُ علاقتي مع نفسي ومع الله. ثم، بعد ذلك، عدتُ أسأل: ما السعادة؟ وحينها أدركت أنني أتطرف في بحثي الدؤوب عن السعادة الكاملة. استوعبتُ أنَّ لا أحد كاملاً في هذه الحياة. ثمة نقيضان، في كلِّ شيء؛ فالألوان ليست كلها دافئة، وليست كلها باردة. فهناك أسود وأبيض، وغني وفقير، وأيضاً الجيد والسيئ. هكذا هي الحياة لا شيء يولد إلا وهناك عكسه، ضدّه، لذا علينا النظر إلى الأشياء من الميلين. من هنا تولد فلسفة القبول».

وتستطرد: «أدركتُ أن السعادة تحلّ حينما يحصل التوازن بين النفس والروح والجسد. أدركتُ وجوب أن لا أبحث عن السعادة، بل عن السلام الداخلي في نفسي وروحي وجسدي، وهذا السلام سيقودني إلى السعادة».

من خلال تجربتها الشخصية، انتقلت آلاء لتلعب دور المعالجة بالفن، من خلال ورش عمل، تضم مَنْ هم في عمر الشباب، ومَنْ هم في عمر الشيخوخة. كل الأشخاص يمكنهم الاستفادة من ورشها هذه. كل من يبحث عن السلام الداخلي مدعو ليشاطرها البحث عن السلام الداخلي. ويتحقق ذلك من خلال حوار عميق بين الرسم والمشاعر. فهناك من قد يقف أمام لوحة ويضحك، أو يبكي، أو يقلق، أو يشعر براحة كبيرة. هناك، أمام الخطوط والأشكال المرسومة، قد يكتشف كثيرون قدرات كامنة في دواخلهم. وحينما يرسمون بأنفسهم يُخرجون كثيراً من المشاعر. يكتشف الأشخاص الفرح والأمان والألم والخوف والقوة واليقين، من خلال خروجهم من مشاعرهم المقفلة الجامدة، ومن منطقة الراحة، التي يجعلهم البقاء فيها والخوف من التحرر منها، في روتين قاتل».

  • آلاء العقيل

العلاج بالفن

«أنا السعادة».. هذا ما اكتشفته المعالجة بالفن؛ فـ«السعادة في داخل كل إنسان، في دواخلنا، في أعماقنا، ونحن وحدنا، بإرادتِنا وسعينا عبر العلاج بالفن، يمكننا إطلاق هذه السعادة، والتحرر من كل المشاعر السلبية». وهنا، تقول آلاء: «الوقت الذي أرسم فيه هو الوحيد الذي يُشعرني بأنني حيّة، وغير مقيدة بكمّ المشاعر السلبية. الرسم عزّز في داخلي السلام، وهذا السلام حررني». 

لكن، هناك من يعتقدون أنهم لا يتمتعون بمهارة الرسم، وبالتالي لن يتمكنوا من التعبير؟ تجيب: «لا يحتاج الإنسان أن يكون رساماً كي يعبّر. فالفنّ للجميع، والرسم للجميع، مثل الموسيقى والطعام والألوان. المهم أن يقرر الإنسان، وينطلق، ويتخلص من الخوف، من حكم الآخرين عليه، وستكون نتائج ما فعل بالتأكيد مدهشة». 

المعالجة بالفن، ابنة مدينة الرياض، تُثبت أن الرسم - بالفعل لا بمجرد القول - من أهم الوسائل، التي من خلالها يستطيع الرسام أن يتنفس، ويحاكي فكره، ويغوص في ذاته. هي خاضت تجربة البحث عن السعادة والسلام الداخلي، وتُعممها من خلال ورش عمل، وحلمها الكبير، هو عالمٌ يسوده السلام الداخلي، عملاً بمقولة الدالاي لاما: «لا يمكننا، أبداً، أن نحصل على السلام في العالم الخارجي، إلى أن نتصالح مع أنفسنا». وهذه المصالحة مع الذات وجدتها آلاء العقيل في الفنّ.