أتساءل بصدق: هل التاريخ رواية أولى، قدمها جانب واحد من زاويته وأهوائه الخاصة؟!

التاريخ من زاويتي الشخصية هو - على الأغلب - عبارة عن توثيق لسلسلة من المرويات، والمرويّة تعتمد على واقعة حقيقية، تمت إعادة تدويرها وتحويرها برموز مُتخيَّلة، عبر تعاقب الأجيال التي ورثت تلك المروية. 

والمرويات - إن صح التعبير - هي تلك الرحم التي دفعت بالأساطير وأعادت إنتاجها على أنها حقائق من التاريخ، حقائق روّعت المفسرين والإخباريين، حتى إنهم - في كثير من الأحيان - اضطروا إلى إسقاطها أو نكرانها.

يلتقي التاريخ بالحكاية منذ أزمنة الملاحم والنبوءات، ومن أول الشعوب التي أرّخت حياتها عبر الكتابة في ألواحها ببراعة، واصفة وصفاً دقيقاً طرائق عيشها وعلاقاتها الاجتماعية والروحية، هي (شعوب الهلال الخصيب)، والمتأمل في نصوص وملاحم ومتون سومر يجد تلخيصاً تاريخياً دقيقاً لعقائد وأديان وآلهة سومر، وعلاقة الإنسان الروحية بالطبيعة والطقوس، كلها دوّنت في هيئة ملحمية، قصصية شعرية. وعليه، فإن تلاقي وتزاوج الأنثروبولوجيا بالأدب والحكاية هو تلاقٍ عريق جداً، مذ بدأ الإنسان يحكي عن نفسه، ويسجل ذلك بالكتابة في ألواحه. 

الرواية تعيد بناء العالم الإنساني باستلهام الوقائع التاريخية، ومنحها بُعداً حكائياً، يخلع الروائي عليها شيئًا من ذاتِه عن طريق خياله الأدبي، الذي يُطعّم الإنسان في الرواية بالعاطفة والوجدان والدراما، ليقدّم البُعد الغائب في الكتابة التاريخية، وهو البُعد العاطفي والوجداني أو الفلسفي العميق، الذي تسكت عنه المصادر التاريخية عادةً.

إقرأ أيضاً:  د. عائشة بن بشر تكتب: نافذة نحو الراحة
 

الرواية أهوائية.. فن واحتيال ولعب وابتكار ومكر، وهي لا تشترط المصداقية التاريخية عدا العناصر الأرضية واللبنات البديهية، فثمة فارق بين الروائي والمؤرّخ، الأول يُعمِل خياله في نحت فراغات التاريخ، والثاني يحرّك أدوات بحثه في نقل ما دوّنه الآخرون، ويضفي استنتاجه الأكاديمي، ويوثق مراجعه.

على كاتب الرواية التاريخية ألا يخاف من الحقائق، بل يتجرأ على استلهامها كمادة خام ومرجعيات معرفية، يشتغل عليها بخيال سردي مبتكر. ومعنى أن يكتب رواية تاريخية، فإن ذلك لا يحرره بشكل مطلق من التجرد من تدوين مصدر الحدث في هامش الرواية. يهمني - كقارئة - أن أثق بالروائي الذي يذكر لي مرجعه، حينما (ينقل) لي - دون تخييل - موقعة ما، أو معلومة موثقة في مرجع سبق عمله الإبداعي، واعتمد عليه حرفياً، يهمني أن يعترف الروائي - بشجاعة - بذكر مراجعه في حالة اعتماده على نقل وقائع تاريخية، وترجمته وثائق أجنبية بحذافيرها، صحيح أنه أجمل ما في الرواية الكذب، غير أنك حينما تطرق باب النقل دون توظيف وابتكار؛ فإنك تقع في «مطب» السَّلْب، ونسب جهد الأوائل إلى نفسك. المصداقية مطلب معرفي إنساني، تستدعيه كتابة الرواية أيضاً.