كانت تجلس إلى جانب صديقتها في السيارة، أرادت أن تخبرها بأنها حامل، أرادت أن تقول لها إن سبب كل الحزن الذي يلوح في عينيها منذ عشرة أيام، أنها تحمل في أحشائها طفلاً لديه «كروموزوم» إضافي. هو نعمة من السماء، وسيكون مشرقاً، طيباً، محباً، لكنه سيعاني تأخراً عقلياً. أرادت أن تخبرها بمشاعرها، وفجأة صرخت صديقتها على سائق سيارة كاد يصطدم بسيارتها، قائلة: «أنت معوق؟!.. أنت منغوليان؟!». شعرت كأن مياهاً ساخنة سقطت عليها، بدأت تتعرق، توترت، أرادت أن تبكي. تحسست بطنها كأنها تريد أن تقول لجنينها إنها ستحبه كثيراً، وستحميه من كل من سيبدون مشاعر الشفقة نحوه ونحوها. تلك كانت بداية رحلتها الجديدة مع طفلتها «نعمة». وها هي تهرب يومياً، منذ ولادة طفلتها قبل أربعة أعوام، من نظرات الناس. هي تشعر، أحياناً، بالحرج وتحاول - في أحيان أخرى - أن تحبس نفسها مع «نعمتها» في المنزل، بعيداً عن نظرات الشفقة. باتت تغضب أسرع من ذي قبل. وعدد أصدقائها انخفض كثيراً، بعدما ابتعدت عنهم، وعلى الرغم من كل الحبّ الذي تغدقه على ابنتها، وتستمده منها، فإنها أصبحت أكثر قلقاً من ذي قبل.. فهل تترك العنان لمشاعرها المختلطة، أم تراجع أخصائياً نفسياً، يجعلها تحيا مع طفلتها، التي يقولون عنها: «غير طبيعية»، حياة طبيعية أكثر؟!

  • أريام وشقيقها أحمد.

«نعمة» طفلة رائعة، تضحك من قلب قلبها، تُحب كل الناس، تنتظر والدها، لحظة يطل من باب البيت، وتركض نحوه بلهفة رائعة. وحينما ترى والدتها حزينة تضع رأسها على كتفها، وتُسرّح شعرها بكفّ يدها الصغيرة، فهي فرح البيت. لكن، مشكلة الوالدين هي خارج حدود البيت، مع الأشخاص الذين لا يتقبلون في محيطهم أشخاص متلازمة داون، وينظرون إلى أي مختلف نظرة بلا رحمة. هؤلاء يعمدون إلى تهميش «نعمة»، وهذا ما يقلق والدتها كثيراً، ويجعلها تستاء، وتبتعد عن مجتمع لا يرحم. وأكثر ما يُقلق «أم نعمة» تلك المشاعر التي تجتاحها أحياناً، وتجعلها تساهم في إبعاد طفلتها، «وحيدتها»، عن أعين الناس؛ علَّها ترتاح من نظراتهم وتعليقاتهم. فهل هذا هروب؟! هل هذا ضعف؟! هل تُخطئ حينما تُبعد طفلتها خوفاً من كلام الناس؟! هل يمكن لها، ولأمثالها، العيش بسلام؟! وماذا عن شعورها بالذنب بأنها سبب إنجاب طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة؟! هل تحتاج «أم نعمة»، كما كل من يعيشون مثل ظروفها، إلى متابعة من أخصائي في علم النفس؛ لتجاوز المشاعر السلبية؟ 

مفاهيم خاطئة 

استشاري الصحة النفسية والإرشاد الأسري، إيهاب ماجد، يدرك تماماً متاهات المشاعر السلبية، التي تجتاح الإنسان ويقول: «لا يمكن لأي إنسان على وجه هذه الأرض أن يعيش حياة طبيعية، في ظلِّ أفكار سلبية تجتاحه؛ لذا عليه (كما على «أم نعمة») طرد الأفكار السلبية فوراً». 

هنا، قد يلجأ البعض إلى اعتماد مشاعر الإنكار. في هذا الإطار، قد تحاول «أم نعمة» إنكار مشاعرها السلبية أمام الناس؛ خشية أن تراهم يشفقون عليها. وهذا ما قد يؤثر فيها صحياً؛ فتصاب بأمراض عضوية أو نفسية. فإخفاء المشاعر واحتجازها بين جدران أربعة يفاقم مشاكلها ولا يلغيها. وبالتالي، الطريقة الصحيحة، بحسب استشاري الصحة النفسية، تكون من خلال الاعتراف بالمشاعر السلبية، والتعامل معها لا إنكارها. 

«أم نعمة» أخفت كل المشاعر النفسية التي مرّت بها منذ اليوم الأول، منذ ما قبل ولادة «نعمتها». هي لم تنسَ يوماً تلك اللحظة، التي قال لها طبيبها فيها: «أنت حامل بطفل مصاب بمتلازمة داون!». لم تكن تعرف، حينها، ماذا تعني تلك المتلازمة. قرأت وسألت عنها. وبكت حينما عرفت أن طفلتها ستولد مصابة بـ«كروموزوم» إضافي، وبما يعتبره بعض الأشخاص «وصمة». آراء المجتمع تؤثر غالباً في الأشخاص، وهي أثرت في الوالدة جداً. وما يلفت إليه علم النفس، هنا، أن كثيراً من الأهالي يشعرون بالحرج أو بالخجل؛ حينما يواجهون إشكالاً مرضياً عقلياً في عائلتهم، على نقيض ما يحصل إذا كان الإشكال المرضي سببه السكري أو السرطان أو القلب. كل ذلك سببه وجود مفاهيم خاطئة حول من يعانون مشاكل ذهنية أو استيعابية. 

ثلاث درجات

ما يجهله (أو ربما يتجاهله) الأهالي أن درجات الإصابة بمتلازمة داون ثلاث: ضعيفة، ومتوسطة، وكبيرة. ودرجة استيعاب الأطفال المصابين تتوقف على حجم الإصابة، وهناك أمر آخر يحدد مدى قدرة هؤلاء الأطفال على التواصل مع المحيط، يتمثل في حجم تقبل أهلهم لهم. نعم، قبول الطفل نصف الطريق، والنصف الآخر يحدده التكوين. العلاج للطفل والأم، كما لكل العائلة، يكون بتقبل وجود الطفل المصاب الذي سيكون بالتأكيد سعيداً في هذه الدنيا؛ لأنه لا يحمل هماً، ولا يكبت يأساً وقلقاً. فلماذا اعتباره عبئاً؟ هل سبب ذلك الخوف عليه من نظرة المجتمع؟ هل سبب ذلك خوفنا عليه ألا يتمكن من تدبير نفسه حينما يكبر؟ كلنا معرضون للإصابة بداء يدمر حياتنا فلماذا لا نتوكل على الله، ونفعل ما يرضيه. القبول أساسي لتتمكن «أم نعمة»، كما ملاكها «نعمة»، من العيش بسلام. والحب الفائض الذي ستغدقه الطفلة الجميلة على كل من هم حولها سيُنسي الأهل كل ما عداه.

إقرأ أيضاً:  5 أسباب لرائحة الفم الكريهة.. تعرفي إليها
 

يوميات أريام وأحمد

من تجاربهم نتعلم.. هم فنانون ومشاهير نعتبرهم يملكون كل ما يحتاجون إليه في هذه الحياة، نغار منهم أحياناً، ونحاول أن نتمثل بهم غالباً، غير مدركين أنهم مثلنا تماماً: يفرحون ويحزنون، ويكونون حيناً ضعفاء جداً، وحيناً آخر أقوياء جداً. ومن بين هؤلاء، مشاهير اختبروا إنجاب طفل مصاب بمتلازمة داون. وهناك آخرون كبروا مع شقيق أو شقيقة من مالكي متلازمة الحب (تريزومي 21).. فكيف تفاعل هؤلاء مع ذلك؟

النجمة العالمية كاترينا سكورسون كشفت عن ابنتها «بالوما» المصابة بمتلازمة داون، واعتبرت أن وجودها هو حظ جيّد وليس سيئاً.

وتقول المطربة الإماراتية أريام عن شقيقها «أحمد» المصاب بمتلازمة داون، إنه أجمل ما في دنياها، و«بركة البيت»، ومملوء بالإيجابية ونقاء القلب. يحب الضحك واللعب والموسيقى والتصوير، وهو اجتماعي من الدرجة الأولى.

وخصصت أريام فقرة أسبوعية على وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة براديو (ستار إف إم)، بعنوان «يوميات أحمد»، وتطل من خلالها مع شقيقها أحمد في مناسبات مختلفة، وقد لاقت هذه الفقرة تفاعلاً واسعاً من الجمهور الذي أتت تعليقاته إيجابية ومتفاعلة مع أحمد.

حاكمة ولاية ألاسكا، سابقاً، سارة بالين، شعرت بالأسى حينما علمت أنها حامل بجنين مصاب بمتلازمة داون، ويومها قالت لزوجها: «الخبر الجيد أننا سننجب صبياً، لكن سيكون أمامنا تحدٍّ». وبالفعل ولد «تريغ»، الذي أضاف تحديات إلى حياة الأسرة، لكن ها هو مملوء بالحب والنعم والفرح. 

بدورها، اختبرت الممثلة والمغنية الأميركية، تيشا كامبل مارتن، نعمة إنجاب طفل مصاب بالتأخر العقلي، وقالت في حينها: «علمتُ أن الاحتياجات الخاصة لابني قد تجعل حياته مختلفة عما خططتُ له في عقلي وأحلامي وتطلعاتي، لكن لم يكن لديّ الوقت للشعور بالأسف تجاهه أو تجاه نفسي وعائلتي».