يُسمى الصدى بـ«ابنة الجبل» في المخيلة العربية القديمة. فالصدى ثراء المخيلة والرّوح، وكل ما يتحرك باتجاه التأمل يخلق صداه وفِقْهه الخاص في الأدب والشعور والبناء المجازي. والمياه من حولنا وشريط الساحل وصدى المياه في المزاريب والأعشاش والندى وحفيف الغابات والقبور والشواهد الحجرية والأصداف والأسلاف والرموز والأهواء.. كلها أصداء تُثري الأدب. والفراغ، أيضاً، له صدى مُحكم النّسج، فالمدّ الهائل بالفراغ والسُّحُب والسهول الممتدة تُحدث صدى وتريّاً في أعذب تجليات الرّيح. 

لكن ماذا عن اللانهايات؟ حيث الطريق العميق لصوت الأسئلة البشرية، والفضاء العامر بمحاولات الفهم والتعاطف والتكيّف، طريق يعبر من خلاله صوتُ الوعيّ اللانهائي عبر مئات القرون.. هل للانهايات صدى؟ 

نحن تاريخٌ عميق لصدى أزليّ قديم، نحن حُلم الصدى وبحره وأهواؤه الأبدية. كل ما يحيطنا من كيانات لها صدى مُطلق، وُلِدتْ ومعها الصدى، ترددها الفسيح الخاص، للرمال المتحركة في الربع الخالي، صدى أطلق عليه الرحالة المستشرقون: «الرمال المغردة». الصخور التي تتدحرج، تخلق صداها الخاص، وتُرجِع صدى من حولها. الصخور تتكلم كما كان يعتقد الإنسان الفطري القديم، فلدى قبيلة الهنود الحمر (الشيروكي) عددٌ لا يُحصى من أسماء «الصخور التي تتكلم». شيء خارق ربما من داخل الصخرة يعيد الكلام؛ ما يجعل وجوده محسوساً. ولدى الأميركيين الأصليين من قبيلة «بايت» قصصٌ عن الساحرات، اللاتي كُنّ يعشنَ بين الصخور، ويكررن كلمات العابرين. 

الصخور لا تتشابه في صداها، وإنما تفترق بحسب تكوينها الجيولوجي والزمنيّ ودرجة الصلادة، وحسب اختلاف جنسها الطبيعي؛ فالصخور منها جلمود ذكوري صلد، ومنها أنثوي حنون خصب بالألوان الدافئة والمعادن الناعمة والباردة، قابل للنقش والتفتيت.

أما ما كان ذكورياً، فصداه يتردد قاسياً كالرعد الهادر، وكأنه آتٍ من زمن التصدي والحروب والسيوف والتمرد. وما كان أنثوياً، فصدى الدّحرجة يأتي أليفاً مُنطلقاً من زمن الأنهار والحقول والزروع والخصوبة والحصاد وفنون الصخر الأولى. 

كثيراً ما وُجِد الفن الصخريّ على جدران المآوي الصخرية، تلك السطوح الرنانة والجدران التي تبدو - من صوتها - مكاناً مناسباً للسكن، والتي هي في الواقع مداخل للعالم الروحي. لقد كان للصدى في الكهوف - التي سكنها الإنسان، خلال العصر الحجري الأوسط والمتأخر - دور حاسم في تحديد أماكن الرسم والنقش على الجدران الداخلية لهذه الكهوف، بدليل وجودها في الأعماق المظلمة، حيث الصدى أقوى وأوضح، وليس بالقرب من المدخل. فلو أنك دخلت اليوم أحد هذه الكهوف، ستلاحظ أن كل صوت يصدرُ منك أثناء مشيك يبقى لفترة أطول، ويُدوّي ويرتدُّ إليك من اتجاهات لا يمكنك التنبؤ بها. إن الصخور شكلٌ واحد من أشكال حفظ صدانا الأزليّ، حفظ الطريق العميق للأسئلة البشرية.. حفظ اللانهايات، ونحن ظلٌّ في الصدى.