لطالما حكيت لك عن تلك الفلسفة الفرضية الشهيرة لضفدع ما، وضعوه في إناء من الماء، وأشعلوا تحته النار.. الحرارة ترتفع تدريجياً؛ فيبذل الضفدع أقصى جهده ليتكيف معها، بدلاً من أن يفكر في القفز خارجاً لإنقاذ نفسه.. تزداد الحرارة ويزداد جهده.. حتى يصل الماء إلى درجة الغليان؛ فيقرر الضفدع القفز خارج الإناء.. لكنه يفاجأ بأن طاقته قد نفدت تماماً؛ فيستسلم لمرارة الهلاك!

كنت تضحك من حماقة الضفدع، الذي أضاع فرصته في الهروب بالوقت المناسب.. بينما كنت أدافع عنه بحماسة، زاعمة أنه يكفيه أنه (مات بطلاً)!!

وتمر الأيام بيننا؛ ليخفت بريقها يوماً بعد يوم.. يملُّ القلب برد أرصفة الخذلان، وتسول لقمة عاطفتك.. تزداد حدة صفير الريح بيننا، وتتساقط الأوراق الذابلة؛ لتذر غصوننا عارية..

وفوقها يقف عصفورٌ كسير الجناح، يرقب السماء بحسرة، وقد صار مجرد الحلم بالطيران جرماً واجب العقوبة..

يوشوش الوجع أذني بسخرية قاتمة: «أما كان أولى بضفدعك (البطل) أن يقفز هارباً مع أول لسعة لجلده الرقيق.. ها هو ذا يحترق بذنب تضحيته!».

ولأول مرة أتفق معك!

كم كان الضفدع أحمق، وهو يظن أنه سيخترع النجاة في زمن الهلاك.. كم كان الربان أحمق، وهو يرمم ثقب السفينة ساعة الطوفان.. وكم كنت حمقاء عندما ظننت أن بابي الهش سيقف في وجه العاصفة!

كم كان يلزمني من العقل؛ كي أدرك أن بعض العطاء إثمٌ.. وبعض الكفاح إثمٌ.. وبعض العشق لمن لا يستحق إثم؟!

كم كان يلزمني من الجرح؛ كي أفهم أن مذاق الحب لا يستقيم إلا ببعض قطرات من الأنانية في كؤوس عطائه؟!

كم كان يلزمني من البرد؛ كي أدرك أن قسوة الثلج أرحم، أحياناً، من دفء رداء أشواكك؟!

لكن عزائي أنك - أستاذي - في درس لا أظنني سأنساه ما حييت.. لم أعد ذاك الضفدع المتفاني، الذي تتلاحق أنفاسه سعياً خلف وَهْم (التكيف) للإنقاذ.. لم تعد تعنيني (بطولة البقاء)؛ فاستبدلتها بمقعد مريح على شاطئ العزلة.. صرت أحمل هذا (الترمومتر) الدقيق، الذي يشعرني بـ(الحرارة) من حولي؛ لأدرك لحظة القفز قبل فوات الأوان.

ما خُلق قلبي ليشقى.. وما ذُرف دمعي ليهون.. وما وُهب عمري لمن يعطله، بل لمن يملك عصا سحرية تجيد تثمينه؛ فتحيل دقائقه ساعات وأياماً وشهوراً.. وعصوراً!