هل‭ ‬هناك‭ ‬مقاييس‭ ‬نموذجية‭ ‬ثابتة‭ ‬لمفهوم‭ ‬الحرية،‭ ‬يُعوَّل‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬القياس؟‭.. ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التساؤل‭ ‬أقيم‭ ‬زاوية‭ ‬أحاول‭ ‬أن‭ ‬أفهم‭ ‬منها‭ ‬المقاييس‭ ‬المطلقة‭ ‬للحرية‭ ‬الفردية،‭ ‬التي‭ ‬بناء‭ ‬عليها‭ ‬نقيس‭ ‬مدى‭ ‬حفاظ‭ ‬المجتمع‭ ‬على‭ ‬حرية‭ ‬الفرد‭ ‬من‭ ‬عدمه‭.‬

الحرية‭ ‬كمفهوم‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬له‭ ‬إجماعاً‭ ‬ثقافياً‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬التاريخ‭ ‬البشري؛‭ ‬فهو‭ ‬مفهوم‭ ‬يتغير،‭ ‬ويخضع‭ ‬لآليات‭ ‬التغيير‭ ‬الثقافي‭ ‬والمجتمعي‭ ‬للحضارات‭ ‬عبر‭ ‬العصور،‭ ‬فحينما‭ ‬عرَّفت‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬الحرية‭ ‬عرفتها‭ ‬بـ«أن‭ ‬يمارس‭ ‬الفرد‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحلو‭ ‬له؛‭ ‬شريطة‭ ‬ألا‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬ضرر‭ ‬للآخرين،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬فإن‭ ‬ممارسة‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬لحقوقه‭ ‬الطبيعية‭ ‬لا‭ ‬حد‭ ‬لها؛‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬أعاقت‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع‭ ‬الآخرين‭ ‬عن‭ ‬التمتع‭ ‬بالحقوق‭ ‬نفسها‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فهذه‭ ‬الحدود‭ ‬لا‭ ‬يرسمها‭ ‬إلا‭ ‬القانون‮»‬،‭ ‬وتبقى‭ ‬الإشكالية،‭ ‬هنا،‭ ‬تلك‭ ‬الحدود‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تُرسم‭ ‬إلا‭ ‬بالقانون،‭ ‬والقانون‭ ‬يضعه‭ ‬أفراد‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭ ‬خاضعون‭ ‬لثقافته؛‭ ‬لأن‭ ‬تجاربهم‭ ‬ومفاهيمهم‭ ‬وخبراتهم‭ ‬كانت‭ ‬نتاج‭ ‬تفاعلهم‭ ‬وعلاقاتهم‭ ‬وتأثرهم‭ ‬بالمجتمع؛‭ ‬لذلك‭ ‬ستبقى‭ ‬تلك‭ ‬الحدود‭ ‬رهينة‭ ‬لثقافة‭ ‬المجتمع،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬نمذجتها،‭ ‬ووضع‭ ‬قياس‭ ‬مطلق‭ ‬لها،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نقيس‭ ‬عليه‭ ‬مفهوم‭ ‬كل‭ ‬المجتمعات‭ ‬والثقافات‭ ‬البشرية‭.‬

المتتبع‭ ‬للحرية،‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭ ‬والحضارات‭ ‬المختلفة،‭ ‬سيجد‭ ‬اختلافات‭ ‬واسعة‭ ‬بين‭ ‬الحرية‭ ‬في‭ ‬الحضارة‭ ‬المصرية‭ ‬القديمة،‭ ‬وفي‭ ‬الحضارة‭ ‬الآشورية،‭ ‬والبابلية،‭ ‬واليونانية‭ ‬التي‭ ‬حاول‭ ‬فلاسفتها‭ ‬التنظير‭ ‬للحرية،‭ ‬وظهرت‭ ‬رؤى‭ ‬للمدينة‭ ‬الفاضلة‭ ‬التي‭ ‬يتمتع‭ ‬فيها‭ ‬الفرد‭ ‬بحرية‭ ‬لكن‭ ‬ليس‭ ‬كل‭ ‬الأفراد؛‭ ‬فلم‭ ‬تكن‭ ‬للعبيد‭ ‬حرية،‭ ‬وكانت‭ ‬حرية‭ ‬النساء‭ ‬منقوصة،‭ ‬ومع‭ ‬التطور‭ ‬الحضاري‭ ‬للبشرية،‭ ‬ومع‭ ‬الأديان‭ ‬السماوية‭ ‬تغير‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬مفاهيم‭ ‬الحرية،‭ ‬وأصبحت‭ ‬الحدود‭ ‬تضعها‭ ‬النصوص‭ ‬المقدسة‭ ‬وليس‭ ‬القانون،‭ ‬كما‭ ‬أرادت‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭.‬

إقرأ أيضاً:  الريم بنت عبدالله الفلاسي تكتب: المعلم الأول
 

ظلت‭ ‬الحرية‭ ‬مفهوماً‭ ‬يخضع‭ ‬للتغيير‭ ‬والتبديل‭ ‬والتعديل‭ ‬والتطوير‭ ‬على‭ ‬المدار‭ ‬التاريخي‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬البشري،‭ ‬وليس‭ ‬هناك‭ ‬نموذج‭ ‬مطلق‭ ‬للحرية‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يُعول‭ ‬عليه‭ ‬كحلقة‭ ‬جامعة‭ ‬للبشرية‭. ‬لكن‭ ‬تتصاعد،‭ ‬في‭ ‬الآونة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬محاولة‭ ‬لفرض‭ ‬نموذج‭ ‬واحد‭ ‬لمفهوم‭ ‬الحرية‭ ‬ووضع‭ ‬حد‭ ‬بأن‭ ‬الخروج‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬هو‭ ‬خروج‭ ‬على‭ ‬البشرية،‭ ‬وانتهاك‭ ‬لحقوق‭ ‬البشر‭ ‬في‭ ‬الحرية،‭ ‬وتجاهل‭ ‬تماماً‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬الفروق‭ ‬الثقافية،‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬المفهوم‭ ‬يختلف‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬الهندية‭ ‬عن‭ ‬العربية‭ ‬واللاتينية‭ ‬والأفريقية‭ ‬والثقافة‭ ‬الغربية،‭ ‬التي‭ ‬تفرض‭ ‬نموذجها‭ ‬بصفته‭ ‬المطلق‭.‬

أؤمن‭ ‬بأن‭ ‬الثقافة‭ ‬الغربية‭ ‬هي‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬الثقافات‭ ‬تطوراً‭ ‬وتماشياً‭ ‬مع‭ ‬روح‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬لكن‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬نتوقف‭ ‬عن‭ ‬نمذجتها‭ ‬كمطلق‭ ‬تقاس‭ ‬عليه‭ ‬كل‭ ‬النماذج‭ ‬الأخرى‭.. ‬وأرى‭ ‬أن‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬لديها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الحدود‭ ‬اللامنطقية،‭ ‬التي‭ ‬تشوه‭ ‬المفهوم‭ ‬العربي‭ ‬للحرية،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬نموذج‭ ‬ثقافة‭ ‬أخرى‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬صالحاً‭ ‬لتطبيقه‭ ‬بصورة‭ ‬مطلقة‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا‭.‬

ويظل،‭ ‬دائماً،‭ ‬السؤال‭: ‬أين‭ ‬مدارسنا‭ ‬الفلسفية‭ ‬العربية،‭ ‬التي‭ ‬تمتلك‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬وضع‭ ‬تصور،‭ ‬وبناء‭ ‬مدرسة‭ ‬تتواءم‭ ‬مع‭ ‬ثقافتنا،‭ ‬والفطرة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬بصورة‭ ‬متوازنة،‭ ‬وتصنع‭ ‬مفهوماً‭ ‬للحرية‭ ‬لا‭ ‬يشوه‭ ‬هويتنا،‭ ‬ولا‭ ‬يقتل‭ ‬معاصرتنا؟‭!‬