القراءة‭ ‬تبقى،‭ ‬دائماً،‭ ‬السلوك‭ ‬الإنساني‭ ‬الثابت‭ ‬والمتغير‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه؛‭ ‬إذ‭ ‬تتمتع‭ ‬بخصوصية‭ ‬فريدة،‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬نجدها‭ ‬في‭ ‬سلوكيات‭ ‬إنسانية‭ ‬أخرى‭.. ‬فالقراءة‭ ‬آلية‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬المعرفة،‭ ‬تصبح‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان‭ ‬القارئ‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬المفردات‭ ‬الحياتية‭ ‬الثابتة،‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الممارسة‭ ‬الروتينية‭ ‬اليومية‭ ‬دون‭ ‬انقطاع‭ ‬أو‭ ‬عائق‭.. ‬لكنها‭ ‬متغيرة‭ ‬في‭ ‬تفاصيلها‭ ‬فمن‭ ‬دون‭ ‬التنوع‭ ‬والتغيير‭ ‬بين‭ ‬المجالات‭ ‬المختلفة‭ ‬من‭ ‬المعارف‭ ‬لن‭ ‬تعطي‭ ‬القراءة‭ ‬النتيجة‭ ‬الكاملة‭ ‬منها،‭ ‬فقبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬ندرك‭ ‬هدف‭ ‬القراءة‭ ‬كسلوك‭ ‬بشري،‭ ‬فهل‭ ‬هي‭ ‬قراءة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬القراءة،‭ ‬أم‭ ‬قراءة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬المعرفة؟

هي‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬غاية؛‭ ‬فبعض‭ ‬الناس‭ ‬يحرصون‭ ‬عليها‭ ‬لذاتها،‭ ‬وليس‭ ‬لهدف‭ ‬آخر؛‭ ‬فتصبح‭ ‬مجرد‭ ‬أداة‭ ‬لـ«الوجاهة‮»‬‭ ‬الاجتماعية‭ ‬فقط،‭ ‬ويتخلون‭ ‬عن‭ ‬هدفها‭ ‬الرئيسي‭ ‬والأهم،‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬القراءة‭ ‬وسيلة‭ ‬للمعرفة،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ - ‬بدَوْرها‭ - ‬وسيلة‭ ‬لبناء‭ ‬الأفكار‭ ‬والتطور‭ ‬والتراكم‭ ‬المعرفي،‭ ‬التي‭ ‬تصنع‭ ‬التغيير‭ ‬الحقيقي‭.‬

العلاقة‭ ‬بين‭ ‬القراءة‭ ‬والتطور‭ ‬الفكري‭ ‬والقيمي‭ ‬علاقة‭ ‬طردية‭ ‬وقوية؛‭ ‬ففكر‭ ‬الإنسان‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬نتاج‭ ‬تراكم‭ ‬معرفي،‭ ‬مع‭ ‬تفاعل‭ ‬فلسفي‭ ‬ينتج‭ ‬عنه‭ ‬طرح‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬التساؤلات‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬إجاباتها،‭ ‬وفي‭ ‬عملية‭ ‬معقدة‭ ‬ينتج‭ ‬العقل‭ ‬أفكاراً‭ ‬جديدة،‭ ‬تمثل‭ ‬الرصيد‭ ‬الفكري‭ ‬المكون‭ ‬لشخصية‭ ‬الإنسان،‭ ‬وهذا‭ ‬الرصيد‭ ‬الفكري‭ ‬متغير‭ ‬ولا‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬النمو،‭ ‬طالما‭ ‬تغذى‭ ‬العقل‭ ‬على‭ ‬الكتب‭ ‬والأفكار‭ ‬الجديدة،‭ ‬وكثيراً‭ ‬ما‭ ‬تختلف‭ ‬رؤيتنا‭ ‬نحو‭ ‬كتاب‭ ‬ما،‭ ‬حينما‭ ‬نقرأه‭ ‬مرة‭ ‬ثانية‭ ‬بعد‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬وهذا‭ ‬إن‭ ‬دلَّ‭ ‬على‭ ‬شيء؛‭ ‬فإنما‭ ‬يدلنا‭ ‬على‭ ‬مرونة‭ ‬عقلنا،‭ ‬وتطوره،‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬استيعاب‭ ‬التراكم‭ ‬المعرفي،‭ ‬وبناء‭ ‬معارف‭ ‬وأفكار‭ ‬أكثر‭ ‬تطوراً‭ ‬مما‭ ‬كان‭ ‬عليه‭.‬

كما‭ ‬أن‭ ‬القراءة‭ ‬تعيد‭ ‬إلى‭ ‬الإنسان‭ ‬القارئ‭ ‬توازنه‭ ‬النفسي؛‭ ‬فهو‭ ‬يجد‭ ‬فيها‭ ‬وسيلة‭ ‬للتخلص‭ ‬من‭ ‬ضغوطه‭ ‬النفسية،‭ ‬كما‭ ‬تمثل‭ ‬القراءة‭ ‬للبعض‭ ‬معادلاً‭ ‬للحياة،‭ ‬وأرضاً‭ ‬خصبة‭ ‬لتفريغ‭ ‬المشاعر‭ ‬المخبوءة‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬اللاوعي‭ ‬عنده؛‭ ‬فقد‭ ‬يتفاعل‭ ‬الإنسان‭ ‬مع‭ ‬أحد‭ ‬أبطال‭ ‬رواية‭ ‬ما؛‭ ‬لأنه‭ ‬وجد‭ ‬فيه‭ ‬شخصيته‭ ‬التي‭ ‬تمناها،‭ ‬وقد‭ ‬غاب‭ ‬عنه‭ ‬تحقيق‭ ‬ذلك،‭ ‬وقد‭ ‬يحدث‭ ‬إسقاط‭ ‬لأزمة‭ ‬ما،‭ ‬مرَّ‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬إحدى‭ ‬الروايات؛‭ ‬فتخرج‭ ‬تلك‭ ‬المشاعر‭ ‬من‭ ‬مكمنها،‭ ‬وتطفو‭ ‬على‭ ‬السطح‭ ‬عبر‭ ‬قراءته؛‭ ‬فتتعرض‭ ‬للوعي‭ ‬الذي‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬تبخرها،‭ ‬والتخلص‭ ‬من‭ ‬تأثيراتها‭ ‬السلبية‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تستمر‭ ‬وتنمو‭ ‬إن‭ ‬ظلت‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬اللاوعي‭ ‬تضغط‭ ‬عليها،‭ ‬وتعكس‭ ‬ملامح‭ ‬نفسية‭ ‬سلبية؛‭ ‬فتأتي‭ ‬القراءة‭ ‬لتخلص‭ ‬منطقة‭ ‬اللاوعي‭ ‬منها،‭ ‬ويستعيد‭ ‬الإنسان‭ ‬توازنه‭ ‬المنشود‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحالة‭.‬

القراءة‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬سلوك‭ ‬رفاهي‭ ‬نمارسه،‭ ‬بل‭ ‬سلوك‭ ‬بنيوي‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬التأثير‭ ‬المباشر‭ ‬وغير‭ ‬المباشر‭ ‬في‭ ‬ملامحنا‭ ‬وأفكارنا‭ ‬وشخصياتنا،‭ ‬ويمثل‭ ‬ركناً‭ ‬أساسياً‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬قيمنا‭ ‬وسلوكياتنا‭ ‬مع‭ ‬الحياة،‭ ‬ومع‭ ‬الآخرين‭.‬

ويبقى‭ ‬الجزء‭ ‬الأكثر‭ ‬أهمية‭ ‬من‭ ‬انعكاس‭ ‬القراءة‭ ‬على‭ ‬حياتنا،‭ ‬هو‭ ‬فهمنا‭ ‬لذاتنا؛‭ ‬فكثيرون‭ ‬منا‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يعون‭ ‬أنفسهم‭ ‬وقدراتهم،‭ ‬ولا‭ ‬يفسرون‭ ‬سلوكياتهم‭ ‬إلا‭ ‬حينما‭ ‬ينفتح‭ ‬وعيهم‭ ‬على‭ ‬المعرفة،‭ ‬ويتعلمون‭ ‬من‭ ‬قراءاتهم‭ ‬قدرتهم‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬ذواتهم،‭ ‬وتفكيك‭ ‬أفكارهم،‭ ‬وسلوكياتهم،‭ ‬وإعادة‭ ‬بناء‭ ‬تصورهم‭ ‬لأنفسهم‭.. ‬وبمعرفة‭ ‬الذات‭ ‬تبدأ‭ ‬رحلة‭ ‬التغيير‭ ‬نحو‭ ‬الأفضل‭ ‬والمزيد‭ ‬من‭ ‬الإيجابية‭ ‬والتطور‭.‬

القراءة‭ ‬سلوك‭ ‬هو‭ ‬المبتدأ‭ ‬لوعي‭ ‬الإنسان،‭ ‬والخبر‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬شخصيته‭.‬