كثيرة‭ ‬هي‭ ‬الأساطير‭ ‬التي‭ ‬حُكيت‭ ‬حول‭ ‬الماء،‭ ‬وأوحت‭ ‬بالديمومة،‭ ‬والاستقرار،‭ ‬والتجدد،‭ ‬ووحدة‭ ‬الوجود،‭ ‬بدءاً‭ ‬بأساطير‭ ‬التكوين‭ ‬في‭ ‬الحضارات‭ ‬السومرية،‭ ‬وانتهاءً‭ ‬بالحكايات‭ ‬والخرافات،‭ ‬التي‭ ‬رُويت‭ ‬وتُروى‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الجدات‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الطموة‮»‬،‭ ‬والفيضان،‭ ‬والطوفان‭ ‬القديم‭.‬

ولكن‭ ‬نتساءل،‭ ‬ونحن‭ ‬نقرأ‭ ‬للكاتبة‭ ‬الإماراتية‭ ‬الراحلة‭ ‬مريم‭ ‬جمعة‭ ‬فرج‭: ‬لماذا‭ ‬جاءت‭ ‬نصوصها‭ ‬مقترنة‭ ‬بشكل‭ ‬ديموميّ‭ ‬بالماء؟‭ ‬وكأنه‭ ‬نداء‭ ‬الأعماق‭ ‬المنبعث‭ ‬من‭ ‬أرض‭ ‬مجهولة،‭ ‬بداخلها‭ ‬نداء‭ ‬الأهواء،‭ ‬والماء‭ ‬في‭ ‬نصوصها،‭ ‬هو‭ ‬بطل‭ ‬العُمق‭ ‬المهيأ‭ ‬لاستقبال‭ ‬الهبات‭ ‬القصصية،‭ ‬والحث‭ ‬على‭ ‬التطواف‭ ‬بين‭ ‬عوالم‭ ‬الحدس،‭ ‬والحُلم‭ ‬المائي،‭ ‬أو‭ ‬لنقل‭ ‬الوقوع‭ ‬تحت‭ ‬أهواء‭ ‬أمومة‭ ‬الماء‭.‬

قد‭ ‬يعرف‭ ‬أكثرنا،‭ ‬الذين‭ ‬قرؤوا‭ ‬في‭ ‬سيرتها‭ ‬الشخصية،‭ ‬أن‭ ‬الراحلة‭ ‬مريم‭ ‬جمعة‭ ‬لم‭ ‬تتزوج‭ ‬لتنجب‭ ‬وتأخذ‭ ‬حظها‭ ‬من‭ ‬الأمومة،‭ ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬انتفاء‭ ‬وجود‭ ‬حاسة‭ ‬أمومية‭ ‬قوية‭ ‬بداخلها‭.‬

والأمومة‭ ‬هبة‭ ‬عامة‭ ‬في‭ ‬النساء،‭ ‬ولدن‭ ‬أم‭ ‬لم‭ ‬يلدن،‭ ‬فهنَّ‭ ‬قادرات‭ ‬على‭ ‬تعميم‭ ‬أمومتهن‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬شيء‭. ‬

إن‭ ‬الأمومة‭ ‬عند‭ ‬مريم‭ ‬جمعة‭ ‬أشبه‭ ‬بالحاجة‭ ‬إلى‭ ‬تدفق‭ ‬الحسّ‭ ‬الفطري،‭ ‬الحاجة‭ ‬العميقة‭ ‬إلى‭ ‬الرؤية‭ ‬والإزهار،‭ ‬ومنح‭ ‬الرعاية‭ ‬والحماية،‭ ‬فأغلبنا‭ ‬يعلم‭ ‬أن‭ ‬مريم‭ ‬جمعة‭ ‬فرج‭ ‬أشرفت‭ ‬ـ‭ ‬بعد‭ ‬رحيل‭ ‬والدها‭ ‬ـ‭ ‬على‭ ‬تربية‭ ‬أشقائها‭ ‬وشقيقاتها،‭ ‬الذين‭ ‬يبلغ‭ ‬عددهم‭ ‬11‭ ‬فرداً‭. ‬وتقول‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬حواراتها‭: ‬‮«‬إن‭ ‬إخوتي‭ ‬الصغار،‭ ‬خاصة‭ ‬الذين‭ ‬أشرفتُ‭ ‬على‭ ‬تربيتهم‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬والدتي،‭ ‬يعتبرونني‭ ‬أُماً،‭ ‬ولستُ‭ ‬أُختاً‭ ‬لهم‮»‬‭.  ‬

وتتحول‭ ‬مريم‭ ‬إلى‭ ‬أم‭ ‬لوالدتها،‭ ‬التي‭ ‬أرهقتها‭ ‬السنون‭ ‬والمرض،‭ ‬فرافقت‭ ‬والدتها‭ ‬في‭ ‬سنوات‭ ‬المرض‭ ‬حتى‭ ‬لحظة‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬المستشفى،‭ ‬ولازلتُ‭ ‬أتذكر‭ ‬قولها‭ ‬في‭ ‬ملتقى‭ ‬السرد‭ ‬بالكويت‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬ماتت‭ ‬أمي‭.. ‬ومتُّ‭ ‬معها‮»‬‭.‬

وكأنها‭ ‬تقول‭: ‬‮«‬لم‭ ‬تمت‭ ‬أمي‭.. ‬بل‭ ‬أنا‭ ‬من‭ ‬مات‭ ‬فيها‮»‬‭. ‬

وهذا‭ ‬يؤكد‭ ‬النسيج‭ ‬الأمومي‭ ‬المتبادل‭ ‬بين‭ ‬الاثنتين‭. ‬

وقد‭ ‬تندّت‭ ‬تلك‭ ‬الهبة‭ ‬الشعورية،‭ ‬وطفحت‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬القصص‭ ‬بكل‭ ‬جاذبية‭ ‬وحميمية،‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬تكرار‭ ‬معجمٍ‭ ‬لغوي‭ ‬وتصويريٍ‭ ‬ثريٍّ‭ ‬بالماء،‭ ‬ففي‭ ‬قصة‭ ‬فيروز‭: ‬‮«‬نزلا‭ ‬بهدوء،‭ ‬وكان‭ ‬القاع‭ ‬بارداً،‭ ‬ومنه‭ ‬التمعتْ‭ ‬عيناكَ‭ ‬بالفرح‭ ‬كشيئين‭ ‬يفتشان‭ ‬عن‭ ‬شيء‭ ‬مفقود‭ ‬في‭ ‬الماء‮»‬‭. ‬ماء،‭ ‬دار‭ ‬ورق،‭ ‬ص‭: ‬14‭.‬

وفي‭ ‬قصة‭ ‬ماء‭: ‬‮«‬ضربوا‭ ‬مصفاة‭ ‬النّفط‭.. ‬ضربنا‭ ‬مِصفاة‭ ‬الماء‭.. ‬وضعنا‭ ‬أيدينا‭ ‬على‭ ‬أفواهنا‭.. ‬ماء‭ ‬رددوا‭ ‬كالصدى‭: ‬ماء‭.. ‬ماء‮»‬‭. ‬ص‭: ‬105‭.‬

وفي‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬أعداء‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬واحد‮»‬‭ ‬يتجلى‭ ‬ماء‭ ‬الحكاية،‭ ‬وامتداده‭ ‬الطبيعي‭ ‬في‭ ‬نموذج‭ ‬الحفيدة،‭ ‬كامتداد‭ ‬لنموذج‭ ‬الأم‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬الأخرى‭ ‬امتداد‭ ‬لنموذج‭ ‬الجدّة،‭ ‬تقول‭ ‬الحفيدة‭: ‬‮«‬لم‭ ‬نغادر‭ ‬البيت‭ ‬منذ‭ ‬أيام،‭ ‬ولا‭ ‬أستطيع‭ ‬عدّ‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬بها‭ ‬ماء‭.. ‬الماءُ‭ ‬كثيرٌ‭ ‬جداً‮»‬‭. ‬ص‭: ‬99‭.‬