أسئلة تسير في طبقات الأرض إلى ما لا نهاية.. كأنها تأتي من فصول الذاكرة المطيرة، وأزمنة البراءة، وهمهمة ألحان الوجود القديم. ويتهافت الرّائي على التصوير، محاولاً الإمساك باللحظة، بالنشوة المباغتة، باللغز، بالسفر عبر الزمن.

إن المهجور من الأشياء يفتح زاوية جمالية روحية كبرى، فالبعض ينظر إلى تصوير المهجور مجرد شطحات عابرة، وبالأخص حينما يخرج هذا المُنظّر من دائرة التخصص، لكن الفأل ننهله من ذاك الذي يخطفه المهجور نحو أفق العبث الدلاليّ السرياليّ.

وكأن الأشياء المهجورة تمسّ الروح، وتمسحُ عليها، ومهما اختلف الغرض من إنشائها؛ فإن الروح تمضي نحوها بكل دهشة وفضول.

ما بين الذكرى والذكرى.. إن الماضي الملتقط بالصور شكل آخر لعَيْش اللحظة، ففي الوقت الذي يغمرُ فيه المصورُ المكانَ العتيق بضوء عدسته يعيش لحظة (الآن)، والانغماس في الديمومة المتدفقة عبر المغامرة، ونشوة الكشف والإبداع. رائحة عتيقة، تنضح من زوايا المكان المهجور، رطِبة، مثل: رائحة مخطوطة قديمة، أو أرض ينبش فيها المطر بعد سنوات قاحلة، أو رائحة خشب مبلول بماء البحر.. إنها رائحة الروح.

تبقى زيارة المكان الخَرِب مَيلاً روحياً شخصياً، فهناك من لا تحركهم نداءات الغياب، بل تبث فيهم انطفاءً وكآبة ورعباً ونفوراً، وبعضهم يستشعر فيها همساً ماكراً للموت والمدافن، ويظل مُسمّراً على عظام العالم بقلق وتوتر.

كلٌّ حسب صداه الداخليّ، وأغلب الظن من كان حدسه مشتعلاً بالحُب، ومنسجماً بالمغامرة؛ فلا مكان للمخافة في روحه، بل يدخل منغمساً في الأرض عبر جميع البوابات، وأمكنتها الحاضرة والغائبة، ويُوجِدُ فيها ملاذه السحريَّ، مُصغياً إلى قرع طبول بعيدة بين أحزمة الضوء والصلصال والشموع الخضراء، ومهما صار في تلك الأمكنة من أحداث، وأهوال، يبقَ الفنان المُحِبُّ حياً، وخلاقاً على أحسن حال، لصورة شعرية أو لوحة أو قصة أو سرد رحليّ، كفيل بإعادة إحياء العظام، واستنبات الأزمنة والرمال الأزلية بكل تناغم ونقاء.