دمج أصحاب الهمم في المجتمع من الأمور التي منحتها دولة الإمارات جُلَّ أولوياتها؛ إذ يأبى وطن الإنسانية، أن يترك أصحاب الهمم دون حماية أو رعاية، خاصة بعد إتمامهم فترة الدراسة الأكاديمية، بدءاً من 18 عاماً فما فوق، فمن المعروف أن أصحاب الهمم بعد إتمام هذه الفترة يبقون في المنازل دون عمل على الأغلب. وفي هذا السياق، منحتهم وحدة التأهيل الزراعي في أبوظبي، التابعة لمؤسسة زايد العليا لأصحاب الهمم؛ الفرصة لتعلم حرفة الزراعة؛ لتبادل المنفعة بينهم وبين المجتمع؛ فيحصلون على راتب شهري، والمجتمع يحصل على أجود الخضروات العضوية صديقة البيئة، التي يزرعونها.

قامت «زهرة الخليج» بزيارة وحدة التأهيل الزراعي، التابعة لمؤسسة زايد العليا لأصحاب الهمم، والتي تقع في مدينة بني ياس بأبوظبي، وكان يطلق عليها قديماً - عندما أسسها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، عام 1994 - اسم «مركز زايد للتنمية والتأهيل». ومنذ اللحظة الأولى للزيارة؛ شعرنا بمزيج من المشاعر الآسرة؛ عندما التقينا الشباب والفتيات من أصحاب الهمم بضحكاتهم التي تتعالى في جنبات المكان، ويمرحون هنا وهناك؛ ويُضاء الكون من حولهم بفطرتهم النقية البيضاء، والهواء النقي، وعبير الزهور المنتشرة في المكان كله يأخذك إلى عالم لا متناهي من النقاء.

 

 

 

وتضم «الوحدة» حوالي 96 طالباً وطالبة، من عمر 18 عاماً فما فوق، يتعلمون كل ما يخص الزراعة من ريٍّ وتنظيف وتسميد، تحت إشراف مدرب تأهيل زراعي متخصص، وتبلغ مساحة المزرعة حوالي 20 هكتاراً، وتتم فيها زراعة جميع أنواع الخضروات الموسمية، مثل: البامية، والكوسة، والباذنجان، والفلفل بأنواعه، وكلها منتجات تزرع بأيدي أصحاب الهمم من ذوي الإعاقات الذهنية، بالإضافة إلى البيوت المحمية لزراعة بعض الخضروات، التي تحتاج إلى درجة حرارة معينة، مثل: الخيار، والطماطم الكرزية.

أشجار الغاف.. فوائد بيئية

وخلال تجولك في هذه «الوحدة»؛ تشعر بالسعادة عندما ترى الكثير من الأشجار المثمرة، خاصة الجزء الذي يحتوي على مجموعة من أشجار الغاف، التي تمت زراعتها بأيدي أصحاب الهمم، تماشياً مع شعار عام التسامح عام 2019، نظراً لفوائدها البيئية الكثيرة، إذ إنها تعمل على تقليل الانبعاثات الكربونية بامتصاصها، وبذلك تساعد على تقليل آثار التغير المناخي، وتتميز بقدرتها على البقاء في الظروف البيئية الصعبة، كما يمكنها تحمل الجفاف والملوحة العالية، وامتصاص المياه من عمق 20 متراً تحت سطح الأرض، ولا تستهلك الكثير من المياه، وتتحمل تقلبات الجو والرياح، وهي ملائمة للزراعة في التربة الملحية الرملية.

 

 

 

إشادة أصحاب الهمم

سألت «زهرة الخليج» بعض الطلاب والطالبات عن «الوحدة»؛ فأشادوا بعملهم فيها، وحبهم الكبير لهذا العمل، وارتباطهم بالأرض الطيبة التي يقومون بزراعتها، وفي ذلك قال الطالب نايف المرزوقي: منذ أن التحقت بوحدة التأهيل الزراعي، التابعة لمؤسسة زايد العليا لأصحاب الهمم، وأنا أشعر بسعادة غامرة؛ لأنني تعلمت مهنة آبائي وأجدادي «الزراعة»؛ لأهميتها الكبيرة؛ فهي مصدر غذاء للإنسان والحيوان؛ لذلك أوصانا بها أبونا زايد، طيب الله ثراه، الذي منح والدي، رحمه الله، قطعة أرض قديماً؛ فقام بزراعتها، ومن هنا تولَّد لديَّ حب الزراعة، وأصبحت شغفي الأول، وأتمنى أن أعلمها لأبنائي أيضاً.

وتابع نايف بعفوية، مع ابتسامة عريضة ارتسمت على وجهه، قائلاً: لأنني أعمل، ولديَّ وظيفة؛ تقدمت لخطبة فتاة، وتم كتب الكتاب، وبعد شهر تقريباً سيتم الزفاف بإذن الله، «وأتمنى أن يحضر الجميع العرس، وأنتم أيضاً يا (زهرة الخليج)».

تغليف.. وأجبان

وفي قسم التغليف، حيث تعمل الفتيات صاحبات الهمم بنشاط دائم، كأنهن خلية نحل، إذ يقمن بتغليف الخضروات بحب وسعادة؛ استعداداً لنقلها إلى الأسواق والمتاجر لبيعها، وقد كتب عليها بكل فخر: «منتجات عضوية زرعت بالإمارات». تقول الطالبة ريسة المنصوري: أشعر بسعادة غامرة؛ لوجودي وسط أصدقائي وزملائي في وحدة التأهيل الزراعي، وسبب سعادتي أنني أقدم خدمة لبلادي، وبعملي هذا أصبحت من الأشخاص المنتجين في المجتمع.

بدَوْرها، عبرت الطالبة اليمنية، أسماء صالح، عن امتنانها لدولة الإمارات، ولمؤسسة زايد العليا لأصحاب الهمم، مشيرة إلى أنها تقوم بتركيب الصناديق الكبيرة، التي توضع بداخلها أطباق الخضروات؛ حتى تصل بحالة جيدة إلى محال البيع والمتاجر الكبرى في الدولة. 

في قسم الأجبان، التقينا الطالبة عفراء، التي استرسلت في الحديث، قائلة: تعلمت، هنا، صناعة الجبن بطريقة مميزة، وطعم لذيذ؛ فقد بتنا نصنع اللبنة، ونخلطها بالزعتر أحياناً، فضلاً عن الجبن المدخن، واللبنة الممزوجة بزيت الزيتون، وغيرها الكثير من النكهات المميزة.

 

 

عمليات زراعية

وفي المشتل الزراعي، حيث المزيد من الزهور، التي يفوح عبيرها، وينتشر شذاها في كل مكان، تحدث إلينا عبدالله صالح المصعبي، رئيس وحدة التأهيل الزراعي بالإنابة، الذي أوضح قائلاً: المشتل هو المكان المخصص لإجراء العمليات الزراعية كافة، حيث توجد شتلات للبيوت المحمية، وشتلات أخرى للزراعات الخارجية، بالإضافة إلى زراعة أشجار الزينة، التي يتم بيعها أيضاً في الأسواق، مشيراً إلى أنه يُسمح للجمهور، أيضاً، بشراء أشجار الزينة، وكذلك الماعز، بأسعار معتدلة. ويمكن، كذلك، اختيار الطلبية عن طريق موقع «الوحدة» الإلكتروني، ثم التوجه مباشرة؛ لاستلامها بسهولة ويسر من مقر الوحدة.

ويشير المصعبي إلى أن قسم الصيانة هو المسؤول عن جميع عمليات الصيانة داخل «الوحدة»، ويمثل أصحاب الهمم 70% من العاملين بهذا القسم، وذلك بإشراف مدربين متخصصين، ويقوم أصحاب الهمم بعمليات عدة، منها: تبديل الفلاتر، واللحام، وصيانة المعدات التي تستخدم في الزراعة، ولأن أصحاب الهمم العاملين بهذا القسم ذوو مهارات عالية؛ غالباً يتم توظيفهم في شركات كبرى، مثل شركة الإمارات للسيارات، التي قامت المؤسسة بمساعدة مجموعات من الطلاب في العمل بها.

وعن قسم الاستزراع السمكي، يوضح: يقوم أصحاب الهمم بتربية السمك البلطي ورعايته، وينتج هذا القسم حوالي طنين أسبوعياً، بعدها يتم توزيع المنتج على الأسواق والمتاجر الشهيرة في أبوظبي، والإمارات الأخرى؛ لبيعه.

يرتبط قسم الزراعة المائية ارتباطاً وثيقاً بقسم الاستزراع السمكي، بحسب المصعبي، الذي أوضح قائلاً: الطماطم الكرزية لها عائد مادي كبير، ويقوم أصحاب الهمم بزراعتها في الماء فقط؛ لأنها لا تحتاج إلى إلى أيٍّ من أنواع التربة، سواء الرملية أو الطينية، وبعد الانتهاء من جمع الثمار تعاد المياه إلى المزارع السمكية، وبذلك نعمل على تقليل هدر الماء.

حلب‭ ‬الماعز‭ ‬إلكترونياً

أوضح عبدالله صالح المصعبي أن قسم الثروة الحيوانية في وحدة التأهيل الزراعي، يشتمل على رعاية مجموعة من الماعز بأيدي أصحاب الهمم، حيث يقوم الطالب بمهام عدة، مثل: التنظيف، والإطعام، ومن ثم حلب الماعز إلكترونياً، بعدها يتم نقل الحليب إلى مصنع الأجبان حيث يتم تعقيمه، وتصنيع أنواع الجبن العضوي المختلفة، بأيدي أصحاب الهمم كذلك.