أتذكرُ صديقتي التي أوصتني ذات حزنٍ بالصمت العميق، فقالت: «كوني مثل نبتة»، تتدفق في النمو الهذياني الآسر، وتنضح بحب حقيقي لا مشروط، تعيش ذرات لحظاتها بكل اقتدار، وسامحة لكل شيءٍ بأن يكون.   

بعيداً عن القرى واللقى والمعابد والكهوف وأودية الحيتان وظلال النخيل ومدارس الفخار وكل أسطورة وأثر وسحر وجمال، كانت من أقدس اللحظات التي عشتُها بكامل ذراتها وجزيئاتها، حينما عدتُ إلى هواء الماء في محافظة الفيوم شمال الصعيد المصريّ، وأبحرتُ في مشهد سرياليٍّ كونيٍّ بديع داخل بحيرة قارون المنسابة في صفائها اللامع اللؤلؤي مثل سطح أملس من الزجاج والمرايا، التي عكست قوارب الغيم في السماء.. بحيرة مسترخية بهدوء وسط صحراء أسطورية، مثلت - بعمق - تلك الحالة المذعنة والسامحة لكل شيء بأن يكون في الوجود. 

تلك الحالة تألقت بكامل هالتها وتفاصيلها، حينما فتح المراكبي الشراع، فاستلمتْ الرياح أمانة المركب.

رفرف المركب بخفة، وانساب في غيبوبة نص مفتوح التأويل، ابتعد في بحيرة قارون، وسبح في برزخ كبير أبيض، انثال نحو بدايات الماء، نحو الأبد الممتد في هذيان الماء، تجلّى بنكهة رطوبة الأخشاب، وهالة الشمس، وطراوة الفراغ في المرويات الأسطورية. 

لقد حدث في زمن ما أن كره القارب القيد وأحزان اليابسة، عشق النداء الغامض، نداء الماء، وذوبان القلب، وأسرار الصلوات الخفية. ترك اليابسة ورائحة الرمل والجوع ونداءات الصيادين المالحة على الضفة والحروب الوشيكة، ورفرف في مشهد مائي حر، ذاب في مدّ أزرق، متدفقاً في رذاذ البحيرة، ومسرح النوارس، ونسمات السكون البعيد، وأديرة الصالحين، حليفاً للرياح ومداد الوقت الذي لا ينتهي. 

لحظة انفلات وتحرر من الشاطئ القديم، انبثاقاً نحو اللحظة الحاسمة التي تحضر فيها، بعد غيابك في متاهات الحياة لتكون واعياً باتجاهك، ومراقباً لاتجاه القلب وسماء الروح.

اطرد نفسك من القفص، من النافذة، من الساحل، وارمِها في الماء، يشرق وجه الفضاء بغتة بالاكتشاف الفاتن، كل الأمكنة المجهولة تدلُّ عليك، تكون لك سراً، وتكون لها جنّة، موجة بعد موجة، مجرة بعد مجرة، وقاربك الأبيض يبحر في مناجاة الهذيان الأزرق بلا ربان. على امتداد العطش ما أن تتحدث عن حلمك حتى تصاب بدوار عقلاني لذيذ، امتداد نحو ساحل بعيد يخص ذاكرتك وحدك، حياة كأنك عشتها حينما انفلتّ من رحم العدم.