تبدأ‭ ‬علاقتنا‭ ‬بالعالم‭ ‬مع‭ ‬خطوتنا‭ ‬الأولى‭ ‬بعد‭ ‬الميلاد‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الحواس‭ ‬المادية‭ ‬الخمسة‭ ‬لتكون‭ ‬نافذتنا‭ ‬التي‭ ‬يقف‭ ‬فيها‭ ‬العقل‭ ‬متابعاً‭ ‬حركة‭ ‬الحياة‭ ‬ليتعلم‭ ‬ويبني‭ ‬وعيه‭ ‬الذاتي‭ ‬ويخزن‭ ‬في‭ ‬ذاكرته‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬المشاهد‭ ‬والتجارب‭ ‬التي‭ ‬تمر‭ ‬به،‭ ‬ويبدأ‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬تشكيل‭ ‬وعيه‭ ‬الذاتي،‭ ‬ثم‭ ‬رويدا‭ ‬ينغمر‭ ‬في‭ ‬حركتها‭ ‬ويصبح‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬حتميتها،‭ ‬وتظل‭ ‬الحواس‭ ‬عنصراً‭ ‬فاعلا‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الذكريات‭ ‬ونمو‭ ‬الوعي‭.‬

ترتبط‭ ‬تلك‭ ‬الحواس‭ ‬ارتباطاً‭ ‬شرطياً‭ ‬مع‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬مشاعرنا،‭ ‬وهنا‭ ‬أتوقف‭ ‬مع‭ ‬علاقة‭ ‬الرائحة‭ ‬بالذكريات،‭ ‬والتي‭ ‬قالت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬العلمية‭ ‬أن‭ ‬حاسة‭ ‬الشم‭ ‬هي‭ ‬الأكثر‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬استعادة‭ ‬الذكريات‭ ‬البشرية،‭ ‬بسبب‭ ‬قدرتها‭ ‬الفائقة‭ ‬على‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬مناطق‭ ‬الذاكرة‭ ‬في‭ ‬الدماغ،‭ ‬لذلك‭ ‬تظل‭ ‬ذكريات‭ ‬الرائحة‭ ‬محفورة‭ ‬كنقش‭ ‬أبدي‭ ‬في‭ ‬ذاكرتنا،‭ ‬فكثير‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬بنا‭ ‬لها‭ ‬رائحتها‭ ‬الخاصة،‭ ‬والتي‭ ‬تتميز‭ ‬بها،‭ ‬وتظل‭ ‬باقية‭ ‬في‭ ‬ذاكرتنا،‭ ‬وهناك‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الذكريات‭ ‬المرتبطة‭ ‬ارتباطاً‭ ‬وثيقاً‭ ‬بتلك‭ ‬الرائحة،‭ ‬فمجرد‭ ‬أن‭ ‬تمر‭ ‬بنا‭ ‬ينفتح‭ ‬باب‭ ‬واسع‭ ‬على‭ ‬المشاعر‭ ‬المخزونة‭ ‬في‭ ‬ركن‭ ‬الذكريات،‭ ‬ونستعيدها‭ ‬بكل‭ ‬تفاصيلها‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬نغيب‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬الوعي‭ ‬الآني،‭ ‬ونسقط‭ ‬في‭ ‬ثقب‭ ‬زمني‭ ‬مروراً‭ ‬بوعي‭ ‬ماض‭ ‬نستعيد‭ ‬معه‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬المشاعر‭ ‬والأحداث،‭ ‬وتستعيد‭ ‬تلك‭ ‬المشاعر‭ ‬دفأها‭ ‬الذي‭ ‬كان،‭ ‬وتتداعى‭ ‬في‭ ‬وعينا‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬المشاهد‭ ‬القديمة،‭ ‬وندخلها‭ ‬كمسافر‭ ‬عبر‭ ‬الزمن‭ ‬إلى‭ ‬الماضي،‭ ‬ونتابع‭ ‬تلك‭ ‬المشاهد‭ ‬لتندمج‭ ‬اللحظة‭ ‬الماضية‭ ‬باللحظة‭ ‬الحاضرة‭ ‬مع‭ ‬تدفق‭ ‬مشاعر‭ ‬من‭ ‬الحنين‭.‬

وقد‭ ‬دارت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأبحاث‭ ‬العلمية‭ ‬حول‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬لتنتهي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ارتباط‭ ‬الذكريات‭ ‬بحاسة‭ ‬الشم‭ ‬أقوى‭ ‬وأكثر‭ ‬عاطفية‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬الحواس‭ ‬الأخرى‭. ‬

دوماً‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬لأجواء‭ ‬الشتاء‭ ‬رائحة‭ ‬خاصة‭ ‬تعيد‭ ‬لنا‭ ‬تلك‭ ‬اللحظات‭ ‬الجميلة‭ ‬التي‭ ‬كنا‭ ‬فيها‭ ‬أطفالا‭ ‬نركض‭ ‬في‭ ‬المطر‭ ‬والسعادة‭ ‬تملؤنا‭ ‬ودفء‭ ‬الطعام‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يبعث‭ ‬فينا‭ ‬الحيوية‭ ‬والفرح‭ ‬بتلك‭ ‬الأجواء‭ ‬الشتوية‭ ‬ورائحة‭ ‬الدفء‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تغمرنا‭ ‬في‭ ‬حضن‭ ‬أمي،‭ ‬فرائحة‭ ‬هذا‭ ‬الدفء‭ ‬مهما‭ ‬مرت‭ ‬بنا‭ ‬سنوات‭ ‬العمر‭ ‬فكلما‭ ‬ضمنا‭ ‬حضنها‭ ‬استعدنا‭ ‬طفولتنا‭ ‬من‭ ‬الذاكرة‭. ‬

طالما‭ ‬ظلت‭ ‬رائحة‭ ‬الكتب‭ ‬الجديدة‭ ‬عالقة‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬وما‭ ‬زالت‭ ‬تحفزني‭ ‬على‭ ‬القراءة‭ ‬والإبقاء‭ ‬على‭ ‬الكتاب‭ ‬الورقي‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬حاضري‭ ‬لأن‭ ‬رائحة‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أقرأ‭ ‬فيها‭ ‬في‭ ‬طفولتي‭ ‬شكلت‭ ‬جزءاً‭ ‬رئيساً‭ ‬في‭ ‬الصورة‭ ‬الذهنية‭ ‬في‭ ‬عقلي‭ ‬للقراءة‭ ‬والمعرفة،‭ ‬وبقيت‭ ‬عالقة‭ ‬ومكونة‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬رحلتي‭ ‬المعرفية‭.‬

من‭ ‬تلك‭ ‬الزاوية‭ ‬الهامة‭ ‬ونحن‭ ‬نبدأ‭ ‬شهر‭ ‬القراءة‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬نحرص‭ ‬على‭ ‬ربط‭ ‬القراءة‭ ‬عند‭ ‬الأطفال‭ ‬بحواسهم‭ ‬بصورة‭ ‬إيجابية‭. ‬اصنعوا‭ ‬لأطفالكم‭ ‬بيئة‭ ‬قرائية‭ ‬مادية‭ ‬بتفاصيل‭ ‬حسية‭ ‬مفرحة،‭ ‬فتجربة‭ ‬الحواس‭ ‬حين‭ ‬تكتمل‭ ‬دائرتها‭ ‬عند‭ ‬الطفل‭ ‬يظل‭ ‬السلوك‭ ‬المصاحب‭ ‬قيمة‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭. ‬