كنت‭ ‬هناك‭ ‬على‭ ‬شاطئ‭ ‬البحر،‭ ‬أراقب‭ ‬تلك‭ ‬الأمواج‭ ‬التي‭ ‬رأيتها،‭ ‬وكأنها‭ ‬أيادٍ‭ ‬تحاول‭ ‬الإمساك‭ ‬باليابسة،‭ ‬وكأن‭ ‬البحر‭ ‬يخشى‭ ‬الغرق‭ ‬في‭ ‬المجهول،‭ ‬وكأنه‭ ‬يخاف‭ ‬من‭ ‬فَقْد‭ ‬اليابسة‭ (‬الرفيق‭ ‬الأبدي‭).. ‬الطبيعة‭ ‬تقف‭ ‬ضد‭ ‬الانفصال‭ ‬والعزلة،‭ ‬وتؤمن‭ ‬بحتمية‭ ‬التواصل‭ ‬المستمر،‭ ‬والاستمرار‭ ‬في‭ ‬الاندماج‭ ‬الحياتي‭.. ‬وجدتني‭ ‬أسأل‭ ‬عن‭ ‬البشر‭: ‬هل‭ ‬نحن‭ ‬مقبلون‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬داخل‭ ‬عوالم‭ ‬منفصلة؟‭.. ‬هل‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬وتطورها‭ ‬وتطور‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬والهوية‭ ‬الافتراضية‭ ‬ستعزلنا‭ ‬عن‭ ‬بعضنا‭ ‬بعضاً،‭ ‬وستفصلنا‭ ‬عن‭ ‬ماضينا‭ ‬وجذورنا؟

العزلة،‭ ‬هنا،‭ ‬نوعان‭: ‬عزلة‭ ‬داخل‭ ‬الذات،‭ ‬وهي‭ ‬العزلة‭ ‬التي‭ ‬ينفصل‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬داخل‭ ‬عالمه‭ ‬الفردي،‭ ‬وعزلة‭ ‬داخل‭ ‬حاضره،‭ ‬وهي‭ ‬العزلة‭ ‬التي‭ ‬ينعزل‭ ‬فيها‭ ‬الفرد‭ ‬داخل‭ ‬حاضره،‭ ‬ويبتعد‭ ‬عن‭ ‬ماضيه‭ ‬وجذوره‭ ‬الأولى‭.‬

عن‭ ‬العزلة‭ ‬داخل‭ ‬الحاضر‭ ‬أحدثكم،‭ ‬وأقول‭ ‬إن‭ ‬الزمن‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬ماضٍ‭ ‬نشعر‭ ‬بالحنين‭ ‬إليه،‭ ‬وحاضر‭ ‬لا‭ ‬نرضى‭ ‬عنه،‭ ‬ومستقبل‭ ‬نتطلع‭ ‬إليه‭ ‬وننتظره‭.. ‬ففي‭ ‬أي‭ ‬زمن‭ ‬نفضل‭ ‬أن‭ ‬نعيش؟‭ ‬أرى‭ - ‬من‭ ‬زاويتي‭ - ‬أن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأجيال‭ ‬الناشئة‭ ‬تتطلع‭ ‬إلى‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬المستقبل؛‭ ‬فهناك‭ ‬شغف‭ ‬يزداد‭ ‬يومياً‭ ‬نحو‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬التطور‭ ‬والتكنولوجيا،‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬الطفرة‭ ‬التكنولوجية‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬يعيشها‭ ‬العالم‭ ‬حالياً،‭ ‬وتطور‭ ‬قدرات‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي،‭ ‬وبداية‭ ‬انغماسه‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬البشرية‭.‬

عند‭ ‬زاوية‭ ‬الإجابة‭ ‬التي‭ ‬طرحها‭ ‬عليَّ‭ ‬عقلي،‭ ‬ولايزال‭ ‬الموج‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يتمسك‭ ‬باليابسة،‭ ‬وروحي‭ ‬تتمسك‭ ‬بالحنين‭ ‬إلى‭ ‬الماضي،‭ ‬وإلى‭ ‬جذورنا‭ ‬التي‭ ‬تربينا‭ ‬عليها،‭ ‬وملامحنا‭ ‬التي‭ ‬نقشتها‭ ‬تجاربنا‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬عشناها،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬قدمته‭ ‬تلك‭ ‬الجذور‭ ‬من‭ ‬قيم‭.. ‬تتملكني‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬أمسك‭ ‬بالموج؛‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬يذهب‭ ‬بعيداً،‭ ‬وكأنه‭ ‬الماضي‭ ‬الذي‭ ‬أخشى‭ ‬أن‭ ‬يغرق‭ ‬في‭ ‬العزلة‭ ‬التي‭ ‬تزداد‭ ‬يوماً‭ ‬وراء‭ ‬آخر‭.‬

أما‭ ‬العزلة‭ ‬داخل‭ ‬الذات،‭ ‬فهي‭ ‬عزلتنا‭ ‬التي‭ ‬تساهم‭ ‬فيها‭ ‬شبكات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي؛‭ ‬فتعزلنا‭ ‬عن‭ ‬ذواتنا،‭ ‬وكأننا‭ ‬فراشة‭ ‬علقت‭ ‬في‭ ‬شبكة‭ ‬بيت‭ ‬عنكبوت؛‭ ‬فلفها‭ ‬بخيوطه،‭ ‬وظل‭ ‬يلفها‭ ‬حتى‭ ‬عزلها‭ ‬تماماً‭ ‬عن‭ ‬محيطها‭ ‬الخارجي،‭ ‬وأصبحت‭ ‬داخل‭ ‬تلك‭ ‬الشرنقة‭ ‬الزائفة،‭ ‬فلا‭ ‬هي‭ ‬خرجت‭ ‬للحياة‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬ولا‭ ‬هي‭ ‬عاشت‭ ‬حياتها‭ ‬طبيعية،‭ ‬كما‭ ‬أرادت‭ ‬لها‭ ‬الطبيعة،‭ ‬ومآلها‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬الموت‭ ‬ضحية‭ ‬ذلك‭ ‬العنكبوت‭ ‬الضخم‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬يصطاد‭ ‬كل‭ ‬الأرواح‭ ‬البشرية،‭ ‬ويعزلها‭ ‬داخل‭ ‬شرانق‭ ‬زائفة‭ ‬لا‭ ‬حياة‭ ‬بعدها‭.‬

ويظل‭ ‬السؤال‭ ‬عالقاً‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬الحيرة‭: ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نستعيد‭ ‬أرواحنا‭ ‬التائهة‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬العزلة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نكسر‭ ‬قشرتها‭ ‬الصلبة،‭ ‬التي‭ ‬تزداد‭ ‬يوماً‭ ‬وراء‭ ‬آخر،‭ ‬وكلما‭ ‬أوغلنا‭ ‬في‭ ‬التطور‭ ‬التكنولوجي‭ ‬أوغلنا‭ ‬في‭ ‬العزلة‭.. ‬ألا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يستمر‭ ‬التطور‭ ‬ونمو‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬وشبكات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تتسبب‭ ‬في‭ ‬عزلتنا؟‭.. ‬هل‭ ‬ستجد‭ ‬البشرية،‭ ‬يوماً،‭ ‬طريقاً‭ ‬لتحقيق‭ ‬ذلك،‭ ‬والمحافظة‭ ‬على‭ ‬الاتصال‭ ‬بجذورنا‭ ‬وذواتنا؟‭ ‬