لم تكن الحياة تسعها، لشدة سعادتها، حين وضع الطبيب طفلها، المولود للتوّ، على صدرها. وأيقنت منذ اللحظة الأولى أن عمرها الآتي لن يكون، بعد هذه اللحظة، كما كان قبلها. أصبحت أماً وهذا يكفيها. جميل بدا.. أسمر قليلاً، لا يبكي كثيراً. ينام طوال النهار ويصحو ليلاً. يأكل. يرضع. يبتسم للملائكة وهو يغفو في سريره. أشهر قليلة ونبت أول سنّ لديه. وحين بلغ شهره التاسع أو العاشر بدأت تشعر بشيء غريب في تصرفاته. شعرت بأن شيئاً كامناً، كابتاً، لم تفهمه. فهل ولدها مريض؟ هل يعاني طفلها «مازن» من مشكلة ما تجعله لا يُعبّر كما يجب؟، وأتاها الجواب: مازن مصاب بالتوحد.. خبر كاد يصعقها، لكنها غمرته بين أضلعها وبدأت حكايتهما مع مرض التوحد.

ليس سهلاً على والدين أن يسمعا أن طفلهما يعاني من شوكة دخلت أصبعه الصغير فكيف إذا كانت نتيجته: داء التوحد. أخضعته في البداية إلى الفحوصات المخبرية العامة التي لم تشر إلى أي شيء. التوحد لا يظهر في الفحوصات الطبية. وطبيب الأطفال قد يتأخر في اكتشاف المشكلة التي عادت وحددتها المعالجة النفسية وأخصائية النطق. رأتهما يقرصانه بقوة وهو لا يبدي أي ردة فعل. ظنته قوياً لدرجة أنه لم يبك. لم ترد أن تعترف بأن طفلها مصاب بالتوحد. استبعدت الفكرة في البداية لكنها، بعد أن قرأت كثيراً عن المرض أيقنت أن طفلها متوحد. 

فماذا يعني توحد الطفل؟ ماذا يعني أن يُشخّص طفل بالتوحد؟

أعراض التوحد

طبيبة الأمراض العصبية عند الأطفال، روز ماري بستاني، تقول «إن حالات التوحد قد تكون خفيفة وقد تكون شديدة، وفي الحالتين يفترض التدخل المبكر، لأن 40 % من الأطفال الذين ينالون عناية مبكرة يتمكنون من متابعة حياتهم بأقل ضرر ممكن. وإذا لم يحصل ذلك ستكون النتائج وخيمة». 

الوعي يزداد. والأهالي أصبحوا ينتبهون إلى التفاصيل أكثر من قبل. باتوا يفهمون أعراض التوحد ويتابعون طفلهم برمش العينين وبكثير من التمارين الانشغالية وتمارين النطق. لكن، ما أبرز الأعراض التي تشي بأن الطفل متوحد؟

تقول روز ماري بستاني «إن الطفل لا يجيب حين يسمع اسمه، لا يتفاعل مع ما يحدث من حوله، ولا يعرف كيف يدل بأصبعه إلى الأمور التي يريد لفت النظر إليها، بل يستخدم أصبع والدته لذلك، يحب الانزواء، ويقوم بحركات متكررة، بعبثية وبعدم اتزان، ويلعب بطريقة نوعاً ما غريبة. بدواليب السيارة مثلا لا السيارة». 

نصيحة الأخصائية في الأمراض العصبية إلى الأهالي «لا تدعوا طفلكم أمام التلفزيون وحيداً، ولا تتركوه مع هاتفه، وإذا تأخر بالكلام والمشي والتعبير والتواصل اتجهوا مباشرة إلى مركز متخصص. وتذكروا أن التأخر في التدخل في حالته كارثي». 

الحياة لا ولن تنتهي عند حدود مرض معين أو اضطراب ما، ولا أحد قادر أن يفهم هذه الحقيقة إلا بعد أن يمرّ بتجربة ما، مع مرض ما، مع طفل متوحد ربما. العمر تجارب والتجارب تعلّم. 

الأسباب.. والعلاج

ما هو التوحد؟.. إنه اضطراب في النمو، يؤثر في القدرات التعبيرية والتواصل الاجتماعي مع المحيط، وهو يظهر في السنوات الأولى من عمر الطفل. العوارض قد تختلف بين طفل وآخر. ويتمّ تشخيص الحالة غالباً في عمر الثلاث سنوات، ويصاب به طفل واحد من كل 150 طفلاً. وهو يظهر عند الفتيان، أربع مرات أكثر من الفتيات. 

طبيعي أن يرتبك الأهالي في مثل هذه الحالة، ويشعرون وكأن دنياهم انتهت والآفاق سدت والحياة فقدت قيمتها، وغالباً ما يبكون ويفقدون مقدرة السيطرة على أعصابهم ويهملون حياتهم العملية وعلاقاتهم الاجتماعية. لكن، بغض النظر عن كل هذه الوقائع التي تربكهم، يُفترض بهم إبلاغ الطبيب بملاحظاتهم، ويُفترض أن يوازي الأخصائي بين تاريخ الطفل الطبي وتاريخ نموه، على أن يحدد، وفق مقاييس تشخيصية، إذا كان يصح وصف «توحد» على الاضطرابات التي يعانيها الطفل.

لا علاج يشفي من اضطراب التوحد، لكن التشخيص والتدخل المبكرين يساعدان في تحسين ظروف من يعاني من الاضطراب ويجعلانه ـ إذا خضع إلى علاجات مستمرة وعناية ـ أكثر قدرة على الاندماج في المجتمع. وتتضمن طرق العلاج عادة تدخلات تربوية وسلوكية ومعالجة قدرات النطق وتنمية المهارات المهنية وعناية طبية داعمة، ويتناسب العلاج عادة مع حاجات كل طفل، بالتعاون مع أخصائي في العناية الصحية. والدواء قد يكون رديفاً للعلاج وغير أساسي، ويصفه الأطباء عادة للمتوحدين حين يعانون من كثرة الحركة أو من عدائية شديدة.

التوحد قد يكون اضطراباً جينياً وقد تتسبب به عدوى فيروسية أو تلوث بيئي حفّز نشوءها. تتعدد الأسباب والنتيجة واحدة: ولادة طفل متوحد. 

في المحصلة، لا تصابوا بالهلع إذا سمعتم عن ولادة طفل مصاب بالتوحد في منزلكم. هو يحتاج إلى حبٍ كثير وإلى أن تتقبلوه وتتباهوا به أينما حللتم. هو طفل مليء بالعنفوان، يفضّل التعامل مع الأشخاص الراشدين، لا مع الأطفال من عمره. شجعوه دائماً واطرحوا عليه أسئلة بسيطة بصيغة السؤال: أين؟ لماذا؟ متى؟ ساعدوه ليكبر مثلما يفترض أن يُصبح عليه. هذا ممكن. لا تنسوا ذلك أبداً.