كيف أرسمُ طريق السّهو مع الخطّ الأول لبخار الصيف؟!

يولد الصباح الصيفيّ في قريتي من تاجٍ شمسي على قمة جبل جيس، يتمدد نحو أذرعة السفوح، وممشى الضباب الساكن والفاصل بين عنق الجبل، وطريق السفر إلى هُرمز، يكبرُ في الفضاءات البكر، وعلى اصفرار بقايا الحقول، ورطوبة الساحل الحُلميّ للبحر، كعملاق شعريّ يحرّك بإصبع واحدة تيار الماء، وينفث «تعويذة السندباد» على سطح قوارب الصيادين؛ لتمخر - بتوكل وثقة - نحو لجّة الضوء، وعراء الماء.

حقول كثيرة في الرأس، وخطط مؤجلة إلى الصيف، أقول: لن أسافر هذا الصيف نحو أي جهة سواي، فلديّ كتبٌ ورحلات وتأملات مؤجلة في البلد، ولديَّ الشطر الأكبر من الأسئلة والحيرة، وأنا جائعة لخلوة الكتابة والموسيقى، ولم أحصِ - حتى الآن - رمال النجوم في قلبي. أريدُ أن أغرّد في ناي الرّوح واللغة وتجاويف الصخور، أن أحتسي - على مهل - قهوتي المُطلة على الجبل، وأُراقب بصمت - مثل شبح قديم في البيت - دخول الصباح الصيفي، وخروج الكثير من الأهالي نحو البلدان السياحية البعيدة، أراقب جيولوجيا البلدة بعد فراغ الأزقة والدكاكين ومقاهي البحر.. وفراغ الرأس من الصور والأصوات والأضواء، أُريد أن أشهد الفراغ، فراغ الأرض، ووحيدة سأصغي إلى مزمار الصيف، أستعيد ترانيمه الطفولية في بشارة القيظ، صوت حمام الراعبي، وأزيز الحصاد، وأشهد تلونات الرّطب، أختلي في معبد الروح، وأمدُّ قنطرة من الكتابة نحو عراء الأرض، وأعيد تركيب حياتي، أضع العالم في حجرٍ صغير، وأُراقب الكون في صَدَفَة أزلية.

أشتاق، هذا الصيف، إلى لزوجة الأشياء، ورطوبة جسدي، وعرق الأرض، سأعود إلى البحر، وأجمع اللذائذ من القواقع والمحار والأسماك، وأسمع أخبار الحوريات والجن، سأكتشف لقى أثرية، وأُحرر «مارد الزمن» المسجون بين السهل والوادي.

وعند الأصيل، سأمشي بين البيوت؛ لأراقب تهافت الصبية إلى ملعب رمليّ بدائي لكرة القدم، شيدوه بسواعدهم الصغيرة، خلف جدار ضخم لمصنع «الطابوق»، الذي جثم بهيكله على رأس القرية، وسدَّ أفق النظر إلى رؤوس الجبال. سأوزع حصص الماء البارد - ماء السبيل والأحواض - بين الأشجار، وأعشاش الطيور، والثغور الجبلية. سأجمع ذكرياتي، ودهشة الوعي الأول، بالخطوة الأولى خارج حدود البيت، واللذة الأولى في اكتشاف الذات خارج حدود العائلة..

هناك الكثير من الأشواق والأقمار والشموس والأحياء والموتى خارج حدود الكون؛ لأراقبهم وأكتب عنهم، في روحي لهاثٌ عميق لهواء الصيف، ومجرة الكتابة، سأمكث في البلدة ولن أُسافر، سأصير سحابة في البيت، وأنام كظلٍّ على حافة الأرض، سأصير كوكباً من الندى، وطريقاً يمشي إليَّ ونحوي، طريقاً خاصاً بي وحدي.