بعض الأشجار تتعرف على أحفادها، وقد فعلت ذلك معي شجرة السرو في كل الأقطار والأمصار. الأرض كلها شجرة سرو واحدة.. هكذا لمعت الفكرة الوجدانية في روحي. فبين فترة وأخرى، ونحن في نشوة الصمت والاتصال بالكون، وأثناء توقد الحواس الداخلية، يلمع نداء عميق في منتهى البصيرة والبراءة والحُب، حُرّاً من التأويل والأحكام، يدفعك إلى المضي خلفه، والإتيان بمكنونه وأسراره، والبحث في لغز اتصاله بك. على الأغلب هي مهاتفة نصادفها في المشي، أو السّهو، أو رشفة القهوة، وسعة التأمل، أو الاستراحة في ظل شجرة، أو سقي بستان البيت، أو رسم بيت في القلب، وشراع في ماء العين، أو أثناء كتابة الشعر، فالشعر أيضاً مهاتفة مع الكون. هذا النداء يأتي عميقاً من الطبيعة، من جبل وزهرة في الروح/ بذرة، بلدة، نهر.. أياً كانت هويته، يهاتف سرك، ويرافق بصيرتك، كأنَّ نافذةً فُتحت فجأة بين عينيك، يرافقك كـ«طوطم» سحري أينما حللت، تجلٍّ وحلول أرواحيّ، بمثابة همسٍ واندماج وتوكّل، نداءات مُلحّة، تستوقف عبورك العجالي على هذه الأرض. هكذا هاتفتني شجرة سرو عظيمة في الوجود مع بدايات تدفق أنفاس ربيع السنة الجديدة، وتركتني أسيرةَ محاولات تذكّر البلدان التي جمعتني بها، فهربتُ أولاً إلى «قفقاسيا»، ثم إلى «مادبا»، وجبل «نيبو».. عساني أتذكّر أكثر! قلتُ في نفسي: لاشك في أن تماساً حُرّاً أزلياً يربطني بها، ربما كنتُ ضمن سلالتها التائهة بين ثنايا الوجود. أسيرُ نحوها، وأظنُّ أن روحي غابة من السرو في زمن بعيد، أقتربُ من جذعها؛ فتمسّ عظامي رائحة طرق قديمة، وسعادة لا مثيل لها من فصول الصمت، وعظام الماء، تحتها طويتُ جبال ووديان وأحزان كثيرة، وكنتُ الحفيف والهيكل العظمي للصدى، كنتُ البعد الغائب بذاته، والمختلي بالسعة والنور، وبكل بساطة أراني بذرة في حقل فلاح يحبُّ الصمت والتحديق في الغيوم البعيدة على الهضاب.  ما الذي غيَّب سِرّي في شجرة السرو؟ غبتُ في كامل حضوري، وذوَّبتُ بحزني اللامع ثلج الموتى، رويتُ جداول شاعر صوفي، نسي ظله على السرو، نسي رحلته ورائحته بين أنفاس الشمس، وتقدّم بين حقول الربيع سابحاً نحو الضفة الأخرى من نهر الكون. شجرة السرو هي كونٌ آخر، ربما بيننا آلاف السنوات، وأعرف أن هناك متسعاً للعيش بداخلها مرات كثيرة، متسعاً للعودة إلى هالتي الشجرية الأولى، هالة شجرة سرو عظيمة في فراغ حقل واسع من القمح، والرذاذ، ورائحة الفلاحات، قد أكون أوزّع شمسي في المناطق الباردة، وتستظل بي ربوة منسية.. وأشعر يقيناً بأنني عرفتُ السرو، والسر، والستر العميق، موصولة بما مضى، منبثقة بما سيأتي، غامضة في سحري الحاضر في لوحة «النوستالجيا»، ولذة الانتظار التي لا يُدرك لها حدٌّ ولا مدى.. أسيرُ إلى السرو، وأظن نفسي قبيلة من الخيول، وعربات الغجر، أسيرُ إليها وأنا الطريق وعظامه، وفصول الحجر والماء، أكبرُ في متناهى اللمس، والتحديق، والأبد.