في بُعدها الأخاذ، وفي فراغها الأرجوانيّ اللامع، تمتد تربتها الحصوية الناعمة على مدّ البصر، بدءاً من أقدام الجبال، وحتى رؤوس الرمال الحمراء المتاخمة للبحر. وفي بُعدها الزمني، أُطلق عليها «أرض الساعدي»، ودارَ المعنى كثيراً على الألسن بين معاني السعادة والراحة.

تبدو هذه الأرض ساحة واسعة للروح، ومنفتحاً للأنفس الباحثة عن السكون، فقد كانت موطن الرحلة الأولى للآباء مع بداية قدوم الخريف، ولازلنا نلوذ بها، متى ما أردنا أن ننشد التأمل والصفاء. رغم أن المساحة الأرضية العظمى وُزعت للبيوت السكنية، فلم يبقَ من الأرض سوى ربع المساحة.

أتأمل هذه الأرض الوديعة الهادئة الطافية كفضاء في العدم، إذ بدأ الفراغ ينسحب مع التعمير، وتندمج الأرض بالأحياء السكنية الحداثية.

لازلتُ أحتفظ بصورة من «تلويحة» أبي على هذه الأرض، كان يقف مشيراً إلى فضاء مئذنة مجهولة، فركزتُ العدسة على محور ثلاثي، يحضنُ الشفق والمئذنة و«تلويحة» أبي في الفضاء. لطالما كانت «الساعدي» الدرب الذي تعبر فيه تلويحات الغيوم والأمطار والعشب، ويطوف بسكينة عليها رعاة الأغنام والجمال، ماضين إلى فضاء حُرٍّ آخر، وكنت - منذ طفولتي - أشتمُّ الماء من بين مسامات الأرض بيقين تام بوجود عروق باطنية ممتلئة بالمياه. لم تصبني الوحشة على أرضها يوماً، فأنا أسيرُ بين أرواح الأسلاف المطمئنة، هكذا أومن، بأن هذه الأرض مباركة بالماء، وبعبور الأرواح القديمة الطيبة الحارسة لخطانا، وبحوثنا، وأفكارنا التأملية. 

اليوم، أخوض غمار البحث في الماء، وتكون أرض «الساعدي» المحرض الأول للبدء، انطلاقاً من جذر الكلمة والمعنى الأرجح والأقرب. ساعدي: يعتقدُ سكان بلدة «الساعدي» أن المسمى يعود إلى مشاعر السعادة والراحة، التي يشعر بها قاطنو المنطقة، وزائروها! لكن معنى «ساعد الماء»، أي مجرى ورافد الماء هو الأقرب في الدلالة؛ وفق طبيعة أرض «الساعدي»، التي يبدو سطحها امتداداً لسيح من الحصى الناعم الرمليّ الخصب، وتقع بين الطويين والحمرانية في إمارة رأس الخيمة، وتكثر فيها آثار المزارع القديمة، ويحتمل أن تكون فيها آثار مطمورة لسواعد الماء، وبالأخص أنها تجاور منطقة «أم عرج»، الشهيرة بالآبار، وروافد الماء، ومجاري السيول الجارية من الجبال القريبة، كما أن «الساعدي» أرض منخفضة، نسبة إلى المناطق المجاورة لها، فتهبط الوديان جهتها، ويعدّ أيضاً انتشار شجر الغاف والسمر دليلاً على الوديان التي مرت هناك، لأن السيول تنشر ثمر الغاف والسمر.

لذا، من المُرجح أن يكون معنى الساعدي: سواعد الماء وروافده. وساعد: جمعها سواعد، في اللهجة: قنوات الماء الأرضية، والروافد التي تغذي المجرى الرئيسي للفلج القادم من المنبع الرئيسي.

في اللغة: مسيل الماء إلى الوادي والبحر. وقيل: هو مجرى البحر إلى الأنهار. وسواعد البئر: مخارج مائها، ومجاري عيونها. والسعيد: النهر الذي يسقي الأرض. وقيل: هو النهر الصغير. 

ابن منظور، لسان العرب، ج:2، ص: 608.