يتحول الباب، كما تتحول الأشياء في الكون.. يتحول الباب في الأبعاد الميتافيزيقية من نقطة مكررة، أو زخرف مكرر، إلى صمت وفراغ كبيرين، يتخلى عن وفرة الزخارف، وتتمركز بداخله نقطة محورية واحدة، تعوم في مدلولها لأكثر من فضاء سيميائي واحد.

يتحول الباب، وفق المزاج الشعبي المتأثر بالتغيرات الكبرى، من حجر كبير على باب الكهف إلى احتشاد زخرفي، يضاهي حركة الانتشار التي خلّفها الانفجار العظيم في الكون، ثم يتحول إلى موتيفات هندسية غرافيكية منتظمة، داخل صفحة فخمة مكتنزة بالترصيع والتعشيق المنسجم، ثم إلى حَفْر دقيق في الخشب الطبيعي، وصولاً إلى الوحدة البنيوية الواحدة المتوازية مع وحدة الوجود، ثم إلى تلك البساطة الخلاقة، والأبواب الرهيفة، واللون الواحد اليتيم الذي يملك رمزاً تجريدياً محبباً إلى الروح، وعصياً على الوصف والتحليل.

***

لغوياً.. كلمة (باب) تستثير الشجن، وتحيلنا إلى رمز الباب الأول الذي دخلنا منه جميعاً عبر هذا الكون، ليس الباب في الأصل من الحجر أو السعف أو الخشب ولكنه من (الرّوح)، وكما في أفكار الصوفية: «باب لمظهر إلهي، يدخل الكون عن طريقه». 

الأبواب هي المداخل الوجدانية إلى روح الأرض، عتبة المؤانسة القاطنة خلف سنوات الحنين، وظلال نخلة البيت، وأصوات غابت عن المكان، تاركة وراءها نفحة الأمهات العتيقات، وصيحات الطفولة واللعب المراوغ لخلايا البيت. لأنها الحدّود الأخيرة للخلاص من الخارج والاحتماء بالدّاخل، لأنها الشوق الأول للُّجوء إلى محراب الذات، الوجه الآمن الذي ينتظرنا دائماً؛ ليحتضن عودتنا من الشتات.. من البقاع البعيدة.

والأبواب تأخذ - مع الزمن - مدلولاً «أمومياً»، فكلما شاخت ازدادت رقة وحنوّاً ولهفة على طارقيها، فهي الحاضن الأول للوصول، والشاهد الأول على دمعة العودة، قبل أن يصل النداء إلى الداخل. وأكثرها أمومة ما كان منها صامداً في الوحشة، ومغلقاً منذ زمن بعيد جداً، حيث لم يعد أصحابه يمشون في البيت.. ولا على وجه هذه الأرض، وما عادوا يطرقون أبواب العالم.

لهذا نحن نبحث، دائماً، في أعماق الأبواب القديمة، وليس كبحثنا في الشبابيك أو الجدران.

الباب هوية الأجساد الساكنة والمتحركة في البيت، الأجساد الوامضة بطقس العيش والتكافل، ويتكيّف الباب مع الحالة السلوكية لأجساد العائلة، التي قد تشبه في انسجامها وتنافرها الباب نفسه. يؤثر الباب في حركتنا الروحية والنفسية داخل البيت، كما أننا نؤثّر فيه حين نختار له علامات أسلوبية تعكس إيقاعنا الداخليّ، فليس اعتباطاً هو اختيارنا لشكل الأبواب، بل هو شأن روحيٌّ غيبيٌّ موصول بالخليقة. الباب معبأ بدلالاتنا ودرجات انسجامنا مع الزائرين والعابرين، فإن أحببناهم اخترنا باباً احتفالياً بالحياة، وإن كرهنا وصالهم ثبّتنا على العتبة باباً فجّاً قاتماً، لا يكاد يتجاوز هيئته المادية الخاوية من الرّوح.