نجاة مكي: الفن الحقيقي إبداع فطري ومهارة مكتسبة

حينما تدخل الدكتورة نجاة مكي، رائدة الفن التشكيلي الإماراتي، مملكتها، وتمسك بريشتها، تختفي حينها أصوات الضجيج من حولها؛ لتغلق عينيها، وتفكر، وتتخيل، وتستشعر إبداع الخالق، حتى تتمكن من رسم وإبداع أعمال فنية ساحرة، مستوحاة من العوامل الخارجية المحيطة بها، خلال مسيرة طويلة من الخبرة، والاطلاع على مختلف

حينما تدخل الدكتورة نجاة مكي، رائدة الفن التشكيلي الإماراتي، مملكتها، وتمسك بريشتها، تختفي حينها أصوات الضجيج من حولها؛ لتغلق عينيها، وتفكر، وتتخيل، وتستشعر إبداع الخالق، حتى تتمكن من رسم وإبداع أعمال فنية ساحرة، مستوحاة من العوامل الخارجية المحيطة بها، خلال مسيرة طويلة من الخبرة، والاطلاع على مختلف الثقافات. لكن يبقى وطنها شاغلها الأول في صفحة حياتها الفنية، التي جسدت فيها الطبيعة الصحراوية، والبحر، والتراث الشعبي، مقدمة العديد من المعارض الفنية، التي جذبت أنظار عشاق الفن؛ لتستحق الحصول على العديد من الجوائز التقديرية، وآخرها نيل «وسام الفارس» في الفنون والآداب من الحكومة الفرنسية، أثناء معرضها الفردي الثاني «أطياف المسك».. «زهرة الخليج» التقت الفنانة مكي؛ لنعرف منها بداية شغفها بالرسم، وتجربة ابتعاثها لتكملة دراستها بالخارج، وطقوسها في رسم اللوحات، وكيف تتمكن من ربط اللون مع الذكريات المرتبطة بالأماكن؛ فكان هذا الحوار:

بدايةً.. كيف اكتشفت موهبتك في مجال الرسم؟

منذ نعومة أظافري كنت أهوى الرسم، وساعدتني البيئة التي تربيت فيها على صقل مهاراتي أكثر، حيث كنت أشاهد أخواتي يطرزن أشكالاً فنية على القماش، كما كنت أراقب والدتي وهي تقوم على شؤون حياتنا الخاصة. في الواقع، لقد ترعرعت في أسرة تفيض إبداعاً ودفئاً، وقد كان بيتنا قريباً من البحر والسوق في بر دبي؛ لذلك كانت مفردات الحياة أحد أهم العوامل التي عبرت عن حركة ديناميكية مستمرة حفزت إبداعي، إلى جانب منمنمات الزخارف والمعمار التراثي في المباني والأسواق، التي كنت أشاهدها يومياً، ما ساعد على إثراء مخيلتي البصرية.

ذاكرة إبداعية

كيف كان سوق بر دبي، وقتها؟

كان يطغى على السوق الطابع الشعبي، وقد كان مختلفاً عما هو موجود الآن، حيث كان يضم سوق أقمشة وبقالة وجزارة وخبازاً، والدكان الذي يبيع كل شيء، الذي يعرف الآن بـ«السوبرماركت»، ما أسهم في شحن ذاكرتي الإبداعية بالكثير من المعاني والمدلولات الشاعرية، وقد كنت أتولى شراء احتياجات المنزل من السوق، وكطفلة كنت أمارس اللعب مع الأطفال في «الفرجان القديمة، والسكيك»، حيث كنا ننعم بالمرح والسعادة. أما الحوائط، فقد كانت مغرية للرسم والتشكيل على جنباتها بالفحم.

متى برزت موهبة الرسم لديك؟

هذه الموهبة اتقدت في داخلي عندما التحقت المدرسة، حيث لاحظت مدرسة التربية الفنية أنني أميل إلى الرسم بطريقة تميزني عن زميلاتي، فبدأت توجهني نحو الاستخدام الأفضل لأدوات الرسم والألوان، وساهم تشجيع معلمتي في استمراري بالرسم، ومنحني الدافع إلى مواصلة طموحي الفني، إذ كانت تكرر على سمعي، دائماً، ضرورة التحاقي بكلية الفنون الجميلة.

ماذا عن تجربة ابتعاثك إلى الخارج؛ لإكمال دراستك؟

سافرت للدراسة في الخارج، وبدأنا كدفعة مع بعض الطلبة الخليجيين، وتلك الفترة كانت بالنسبة لي صعبة، لاسيما أنني خرجت لتوي من مجتمع محافظ، فوجدت نفسي فجأة وسط طلبة من مختلف المشارب الفكرية في مكان واحد. كانت تراودني، دائماً، مشاعر الخجل بشكل مستمر، ولم أكن أخرج من «الأتيليه» إلا بعد أنهي التزاماتي الفنية. وبعد فترة من الزمن، بدأت أتأقلم مع الزميلات والزملاء، وأنسجم مع طبيعة المجتمع. كانت حقبة زمنية جميلة في القاهرة، حيث بادرت بتكوين صداقات عدة، واطلعت على ثقافات الفنون المتنوعة في الكلية، ودخلت المتاحف الكبيرة للاطلاع على التاريخ، خاصة أن مصر حاضنة للكثير من الحضارات العريقة، وحضاراتها تهم الدارس والباحث الأكاديمي المتخصص، وخلال تلك الفترة زرت الكثير من الأماكن الأثرية، واطلعت عن كثب على المومياوات والتماثيل، وغيرها من المفردات القديمة التي تحكي قصة هذا التاريخ.

بصفتك من رواد الإمارات في الفنون الجميلة.. هل ساهمت دراسة الماجستير والدكتوراه في تنمية قدراتك الفنية؟

الفن الحقيقي إبداع فطري، ومهارة مكتسبة معاً، بدليل أن الكثيرين درسوا الفن، وعلى دراية بكل مهاراته، لكنهم لم يتمكنوا من اكتشاف الإبداع الذي يملكونه؛ كي تظهر بصمتهم المميزة، في المقابل، هناك من اكتشف أن لديه إبداعاً فطرياً، لكنه لم يعززه بالمهارة والتدريب، فلم يظهر أو يزدهر. الإبداع الفطري يحتاج إلى سعي ليظهر، فهو مثل البذور، التي توضع في باطن الأرض، وتسقى، وتأخذ وقتها في النمو والتجذر لتزدهر. أما أنا، فأومن بأن كلاً منا فنان في مجاله وتخصصه، لذلك سعيت إلى زيادة محصلتي العلمية، فحصلت على البكالوريوس، ثم الماجستير في النحت البارز والمعدني من كلية الفنون الجميلة بالقاهرة، كما حصلت على درجة الدكتوراه في المسكوكات.

دلالات الشعوب

لماذا اخترت المسكوكات؛ لبحثها في رسالة الدكتوراه؟

شغفي بالعملات بدأ منذ الصغر، إذ كنت أحرص على تجميع المسكوكات المعدنية، وبعد إنهاء الماجستير في مصر واطلاعي على حضارة المصريين القدماء؛ انطلقت إلى مربع آخر، هو دراسة علم العملات، انطلاقاً من حبي لمجال النحت البارز. عندما بدأت البحث في هذا التخصص، اكتشفت أن تخصص العملات مجال واسع، وعليَّ أن أحدد ما أريده بالتحديد حتى لا أضيع، فحرصت حينها على التقاء خبراء العملات المعدنية، كما زرت الكثير من المتاحف، وتحديداً في دول الخليج، والمتحف الإسلامي في الشارقة وعجمان، وقد حصلت على تصريح خاص مكنني من الاطلاع على مجموعة من العملات المعدنية النادرة عبر المواقع الخاصة لبعض الأفراد والمؤسسات، وبدأت أبحث بعمق في تاريخ العملات، ومنها: الإسلامية واليونانية والرومانية، ومن خلال بحثي المستفيض عرفت أن العملات ليس لها جانب تاريخي فقط، بل ديني وثقافي واجتماعي أيضاً، لأن واضع رموز العملة يجب أن يكون فناناً واعياً بدلالات الشعوب الثقافية.

ما طقوسك عند رسم اللوحات الفنية؟

أبدأ تنفيذ العمل عندما يحتدم الصراع الإبداعي بداخلي، وعادةً يكون المنتج النهائي ليس كما أردته، فأعكف على إعادته مرات عدة، إذ إنني أرى أن اللوحة كالصورة السينمائية، فاللقطة التي يأخذها المخرج توازي ما يرسمه الفنان، كما يجب أن تكون هناك شخصية رئيسية، وشخصية موازية لها، وشخصية أخرى، حيث يرسم الفنان عناصر، وليس شخصيات فقط، لذلك أحتاج إلى جرعة تركيز عالية عند الرسم. وعندما أضطر للسفر إلى الخارج، خلال فترة رسم لوحة تنقطع سلسلة أفكاري، وعند رجوعي أحتاج إلى فترة زمنية حتى أعود إلى عمق مشروعي الفني الذي بدأته.

حصلت، مؤخراً، على «وسام الفارس» في الفنون والآداب من الحكومة الفرنسية، أثناء معرضك الفردي الثاني «أطياف المسك».. ماذا يمثل لكِ هذا التكريم؟

هذا التكريم يعدُّ مسؤولية وتشريفاً من دولة تقدر الفن والإبداع، وهو بحد ذاته وسام أعتز به؛ لأنه يمثل مسيرتي، وما تركته من أثر، بعد رحلة طويلة من الصبر والتروي، ومواصلة العمل، والاستمتاع بكل ما يمر أمام عينيَّ من مفردات، سواء في بيئتنا، أو خلال الرحلات، أو بالقراءة والاستماع إلى ما يدور حولي من أحداث، ما شكل تجربتي بمراحلها المختلفة.

كيف تمكنتِ من ربط اللون مع الذكريات المرتبطة بالأماكن؟

لكل مرحلة أطياف تلون الذاكرة، بما تمتلك تلك الأماكن من جمال بصري ونفسي، فأستعيد تلك الأطياف، وأجدها المسيطرة على اختيار اللون.

ما تأثير اللون في الحواس لدى الإنسان؟

اللون يمتلك الروح في حالة توظيفه بالشكل الصحيح، لذلك أجد للألوان الفسفورية جمالاً روحياً لدى كل من يتعايش معها؛ لأنها تنقلنا إلى عالم آخر.

حدثينا عن الوسائل والتقنيات الفنية الجديدة، التي اعتمدت عليها في معرضك «أطياف المسك»!

اعتمدت على الجانب الجمالي للون، ثم الخامات، بما يتناسب مع الموضوع؛ فهناك: الورق، والأقمشة، والخيوط، والطباعة بالخامات الممزوجة بمواد «راتنجية»، إضافة إلى ألوان الباتيك.