قمة جبلية هادئة هانئة، تحرس ظهورنا منذ آلاف السنين، وفي الطريق إلى تلك القمة سهل وسراب وضباب ورائحة فخار قديم، ونوارس في الشتاء ترحل من الشمال البعيد؛ لتتدثر بمياه الخليج. وأنت عابرٌ من الجنوب سالكاً طريق الجسر الجلفاري الحديث، الموصل بين السهل والبحر، ستلمح بريقنا البحري الأزرق، وبيوتنا الساحلية الجبلية على شفة الماء. نحن في الأغلب نسكن، هنا، منذ مئات السنين، ومئات الأجيال، وبصورة مباشرة نُحرّك الحوار الأزلي الوصاليّ بين الماء والجبل. وكم أَسرتني هذه الملحمة الجغرافية، وألصقتني بعروق الأرض! جعلتني كاتبة جذورية متحدة مع عناصر الأرض والطبيعة والتكوين. كثيراً ما كتبتُ عن هذه اللوحة الجمالية، التي غمرتني - منذ الطفولة، والمشي الأول - بالمحبة والسلام والأمان، وحين كبرتُ؛ حرصتُ على تخليد حالات الجبل بالتقاط صور من نافذتي صباحاً، حين تبدأ الشمس بنثر عسجدها من رأس القمة إلى السهل. 

أما عن فلسفة القمة والوصول إلى رأسها، فعلى مرّ السنين من حدوث هذه المجاورة اللطيفة بين البلدة وقمة الجبال لم أفكّر بالصعود إلى القمة أبداً، تصوروا ذلك! أن أبقى جارة للقمة دون مطمح للصعود نحوها وزيارتها، مكتفية بالزيارة التخيلية، وكأن الحدود الفاصلة بيننا هي الهدف الروحي التخيلي الذي أتمسك به، وكأن ذلك التجاور والتواجه الحميم في المسافة الطبوغرافية الزمنية الفاصلة بين نافذة غرفتي وبين القمة، طبعا في روحي تفاصيل القمة؛ فصرتُ القمة نفسها، دون عوز لفكرة الصعود والوصول والاستباق والعلوّ. 

لكن.. ماذا عن فلسفة السهل، الذي يلتف بين أقدام الجبل؟ أليس من المهم إدراكه، والوعي بأسرار التجذّر السهلي الإنساني بين الماء والجبل؟ 

وفق الوعي الجمعي، يظن المرء، غالباً، أن الوصول إلى القمة هو الإدراك الوحيد لمعرفة النجاح وتأكيد التفوق، لكنه بمجرد أن يعتاد الوقوف هناك سيعتريه رعب مبهم، رعب متصل بفداحة وحدته وضآلة حجمه، فلن يلمحه أحد على مرّ السنين، ولن يعبأ أحد لإصراره الوقوفيّ القممي في العواصف، ثم ستصاب ذاكرته بالوهن والبرد والجمود، سيتضاءل.. سيختفي دون أن تنتبه إليه الكائنات.

وبينما تتوالى الولادات الجديدة على السهل، يسقط المطر وينمو العشب وتتمدد الحقول القمحية وزهور الحناء وترقص الفراشات ويطوف الدراويش من جلفار إلى مسندم، ويولدُ وادٍ جديد يشق دربه بين ربوع العالم، وبين أقدام الجبل تتسع مغارات السؤال وبراعم اللهفة نحو المجهول، وتتدحرج صخرة من مياه الأعالي، فتكبر المعاني في الطريق، وتخرج بلدة جديدة بحكايات جديدة. إن للسهل سراً وسحراً وحياة ومغامرة، وللسهل ضفافاً ورسالة ونداء عميقاً. إذ لابد من العبور وراء البحار، ولو على شكل سحابة ريشية أو بساط سحريّ طائر، أو على شكل أسطولٍ من الصدى، أو رسالة مضمومة في قارورة ملقاة في الموج.. «لا بد من العبور»!