البحرُ عند هذا الأفق الشاعري، الذي أنجب الحكايات والأساطير، ودحر الغزاة.. يظل أحمد هناك.. مقيماً في المدّ العالي عند كثبان شواطئ خورفكان، وعلى الجبال التي تنظف نفسها مع كل وابل من المطر، مقيماً في الكلمة التشوُّفيّة، مُختلياً بقطعة سماء خلف صحن البيت، متأملاً امتداد السطوح الباردة. وفي جلسته المعتادة، يرفض تلك التحولات التي لم تفهمه، ولم تستوعبه، ولم تجعل له ضفة آمنة. وهو جامع الأمواج الكبرى في كل شيء، والمتحقق في وجوده.. وهو الوجود الهارب من تحققه أيضاً، بعد أن كان في سنوات وجوده الأرضي يصف نفسه بـ«سجين اللغة الواحدة»، تلك هي إحدى معاناته، وأعتقد أنها مثلت أكبر تحدٍّ ثقافي في حياته، وأكسبته مشاعر العزلة، وأحاسيس الفجوة النفسية بين الشعوب، في ظل التقدم الحضاري والتكنولوجي الذي شهدته البلاد، وفي وقت اتخاذ «الإنجليزية» لغة التشارك، وجسراً لفهم الآخر، وتحقيق النموّ المعرفي. 

وأنا أُقلّب أرشيف الصحف؛ لفتني مقال أحمد راشد ثاني، رحمه الله، والمُعَنْوَن بـ«سجين اللغة الواحدة»، واصفاً في المقال معاناته مع اللغة، بعبارة: «الإصابة بفقر دمٍ ثقافيّ»، ويلمس القارئ ذلك التألم الاغترابي، حين يهمس أحمد بحسرة، قائلاً: «للأسف أنا سجين اللغة الواحدة، ولعلي أحس بضغط هذا السجن، حين يتحدث أصدقائي عن اطلاعهم على مواد أو كتب باللغات الأخرى، لا أستطيع الاطلاع عليها. لقد خسرتُ كثيراً من الصداقات، نظراً لضعفي في التحدث بهذه اللغة، أو غيرها. وتكبد قلبي إخفاقات، لا أظنها ستحدث لولا هذا الشؤم اللغوي».

وجدتني أتعاطف بشكل مؤلم مع هذه المكاشفة، فأنا في ذات السجن، سجينة اللغة الواحدة، لكن على يقين تام أن ثمة ما هو أوسع من جميع اللغات الأرضية، حين نخلق نصاً من عُمق الكينونة، حدوسياً مليئاً بالشغف والتحليق. هي لغة حُلمية لازمنية، تجلٍ لما هو خالد وأبديٌّ وحر ومنسجم مع حياة اللحظة. يقول أحمد، واصفاً تلك اللغة الحسية الكونية المطلقة: «لغته أناه، وقد انفتحت على كونه الداخلي؛ لترى هذا الكون، وكأنها تراه للمرة الأولى، وكأنه المولود للتوّ». 

يظل أحمد هناك.. بين تخوم الجبل والبحر، يحلمُ بتحويل مجموعة من جذوع الأشجار، أو سيارة متهالكة، أو سفينة سكنها الرمل، أو جبل مثقوب، إلى مكتبة مجانية. وحين تدور الأرض تدورُ في روحه، فيحدسُ كموسيقى فلك. ويعودُ طفلاً يلعب في حقول الأمواج، التي لا تعرفُ من أين جاءت! وتمشي فوق إيقاعها الكائنات الخفية، وحتى الجمادات والأغاني والجدران الطينية، مكتشفاً سعة اتصاله الحسيّ بجبال الكون وأمواجه وأبوابه الممتدة، مستمتعاً بالعبور الشعريّ نحو اللانهائيات.