جمعة الرميثي: الأمثال البحرية تحمل دروساً حياتية ثرية
يُجسد البحر، في ذاكرة الإماراتيين، أكثر من مجرد مسطح مائي؛ فهو معلم عظيم، ورفيق دائم، وسر من أسرار الحياة، التي نُسجت عبر أمواجه المتلاطمة. فقد كان حاضراً في مختلف جوانب الحياة: الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية؛ ليصبح جزءاً أساسياً من الهوية الإماراتية. لقد التصقت حياة أهل الساحل بالبحر بشكل وثيق، ما أفرز تراثاً غنياً من الأمثال البحرية، التي باتت تُتناقل عبر الأجيال، مُشكّلة جسراً يصل الماضي بالحاضر. التقت «زهرة الخليج» الوالد جمعة محمد حثبور الرميثي، خبير ومستشار التراث البحري الإماراتي، وأحد أقدم «ربابنة البحر»، حيث تجاوز الـ85 عاماً، وقد نشأ في بيئة بحرية، فمارس المهن المرتبطة بالبحر منذ نعومة أظافره؛ ليصبح اليوم أحد أبرز حُماة هذا الإرث.. خلال هذا الحوار، يفتح لنا الرميثي خزائنه المليئة بالذكريات، ليحدثنا عن هذه المفردات الزرقاء، ودلالاتها في الأمثال البحرية الإماراتية، وأثرها في صياغة الهوية الثقافية، وكيف تستفيد الأجيال الجديدة منها في مواجهة تحديات الحياة المعاصرة:
-
جمعة الرميثي: الأمثال البحرية تحمل دروساً حياتية ثرية
كيف تصف العلاقة العميقة بين أهل الساحل والبحر، ومدى انعكاسها على الأمثال الشعبية؟
إنها علاقة متجذرة في نفوس سكان الساحل، القريبين من البحر والبعيدين عنه، فارتباطهم به لم يكن مادياً فقط، بل كان وجدانياً أيضاً، فالبحر مصدر الرزق، والحاضن لقصصهم وحكاياتهم وأمثالهم الشعبية، تلك التي تحكي واقعاً، أو تصف حالاً، أو تنصح مخطئاً، أو تنعت شخصاً، أو تلفت نظراً، أو تنبه غافلاً، أو ترشد ضالاً، أو تحمس متكاسلاً، أو ترفع قيمة أحدهم. وكلها تتصل بالبحر وأهواله وأحواله وأفعاله وتقلباته، وتعكس كل ذلك على حياة الإنسان في هذه الأرض المباركة المعطاءة، التي تفاعل فيها أهلها مع حياة البحر. فالأمثال الشعبية البحرية ليست مجرد تعبيرات لغوية، بل هي محاكاة لواقع عاشه أجدادنا.
قناعة.. ورضا
كيف انعكست هذه العلاقة على الأمثال الشعبية، وكيف عبر أهل الساحل عن البحر، ومكنوناته؟
غازل أهل الساحل البحر، ومكنوناته والسفن والمهن، التي كانت سبباً في نشأة تلك العلاقة الوثيقة مع البحر. ومن الأمثال، التي تعبر عن تلك الخصوصية «وش لك بالبحر وأهواله وأرزاق الله على السيف»، ويعبر هذا المثل عن القناعة والرضا، وتجنب المخاطرة، سعياً وراء الرزق في عمق البحر. شاع هذا المثل في النصف الثاني من القرن الماضي، حينما بدأ استخراج النفط في المنطقة، فاتجه بعض الأهالي للعمل في حقول النفط والصناعات البتروكيماوية، بينما ظل البعض متمسكين بالعمل في البحر، بما فيه من خطورة ومشقة وعناء، بحثاً عن اللؤلؤ، أو الصيد الوفير.
مهنة الغوص ارتبطت بالإماراتيين منذ القِدَم.. فكيف وثّقتها الأمثال البحرية؟
ظلت مهنة الغوص عماد الحياة لسنوات طويلة، وهي تتطلب صبراً وإصراراً، لأنها كانت محفوفة بالمخاطر، لكنها حملت معها دروساً كثيرة. وبقدر احتياجها إلى خبرة وجسارة، تحتاج أيضاً إلى صبر يتحلى به الغواص أو الصياد، قبل أن يهم هو ورفاقه برحلة الغوص أو الصيد؛ بحثاً عن لقمة العيش غير مبالين بلفحة الشمس التي تلهب سمرة جباههم. ومن الأمثال، التي تعكس هذه التجربة: «عليك بأوله يا شوله.. أفلح من باع أول الموسم». ويعبر هذا المثل عن المهارة والذكاء، في ما يخص تجارة اللؤلؤ، حيث إن المتعاملين في هذه التجارة يحبذون سرعة البيع، وتجنب التأخر والتردد. ومن أمثال الغوص الأخرى: «قيس قبل ما تغيص»، أي تعرف على عمق البحر قبل أن تغوص فيه. ومصدر هذا المثل مهنة الغوص وصيد اللؤلؤ؛ فالبحارة يعرفون عمق «مغاصات وهيرات» الغوص، ويصنفون لآلئها حسب عمق كلٍّ منها. ومعنى المثل أن على الإنسان أن يحتاط في كل الأمور قبل الشروع في أي عمل.
كيف تجسد الأمثال الشعبية القيم الحياتية، التي لا تزال ذات أهمية اليوم؟
تقدم الأمثال الشعبية دروساً عميقة، استقاها أهل البحر من تجاربهم، وهي صالحة لكل زمان، وتتعلم منها الأجيال، ومن هذه الأمثال: «حصباة فيها دقة». والحصباة هي اللؤلؤة الكبيرة، ودقة أي ضربة أو خدش أو تشوه ناتج عن وجود نتوءات على سطح اللؤلؤة، فالدقة أو النتوءات تشوه اللؤلؤة الكبيرة، وتجعل ثمنها ضئيلاً، فلو لم يكن فيها هذا العيب لكانت ذات قيمة عالية. هذا المثل يقال عندما يكون إنسان محبوباً من الجميع وله قبول طيب في المجتمع، ومع هذا توجد به خصلة ذميمة، تطغى على تلك الصفات الحميدة. وهناك أيضاً «الشيص في الغبة حلو». والغبة هو البحر العميق، والمقصود به عرض البحر، والشيص هو رطب مر الطعم، تكون له قيمته في عرض البحر أيام الغوص، حيث يعمل البحارة في مغاصات اللؤلؤ، وهم محرومون من أنواع الرطب. بمعنى أن الشيء مهما كان بسيطاً، تكون له قيمة وقت الحاجة إليه.
«اللي ما يقيس قبل لا يغوص ما ينفعه الغوص عقب الغرق».. كيف تفسر هذا المثل في سياق الحياة المعاصرة؟
هذا المثل يحمل دعوة إلى الحكمة والتخطيط قبل أي خطوة. قديماً، كان الغواصون يحتاجون إلى معرفة عمق البحر قبل أن يغامروا بالغوص، وهذا يتطلب حسابات مسبقة. في السياق المعاصر، يمكن أن يكون دعوة للتخطيط السليم في كل شيء بالحياة، سواء في القرارات الشخصية أو المهنية، وأن نفكر في العواقب قبل أن نتخذها. فهذا المثل يعكس أهمية التفكير في المخاطر والفرص، وعدم الانجراف وراء الحوافز السريعة.
-
جمعة الرميثي: الأمثال البحرية تحمل دروساً حياتية ثرية
الحكم الأول
هل يمكن أن تُسلط الضوء على بعض الأمثال، التي تحمل دلالات عميقة؟
هناك الكثير من الأمثال، التي تحمل دروساً مؤثرة، منها: «لا يغرك حمر حيابة.. ترى ليحانه شريش». لا يغرك، أي لا يخدعك، وحمر حيابة، تعني جسد السفينة أحمر اللون، والشريش خشب رديء النوع، ورخيص الثمن. قديماً، كان هناك «المحمل» أي السفينة الكبيرة، وبعضها كان يصنع من الشريش، وكانت تدهن قبل مد الغوص بالصل، وهو نوع من أنواع الدهانات القديمة، فتبدو أخشابها حمراء لامعة وتسر العين، كأنها مصنوعة من خشب قوي، كخشب الساج الثمين، لكن موج البحر كان دائماً الحكم الأول، والفيصل. هذا المثل يقال لوصف الأشياء التي تبدو ثمينة وجميلة المظهر، لكنها في الحقيقة رديئة من الداخل. هناك كذلك «كل هوا وله شراع»، وهوا يعني الهواء والمقصود به الرياح، فالسفن تستعمل أشرعة مختلفة الأحجام، حسب اتجاه وسرعة الريح. والمعنى أن كل موقف له أسلوب معين يتماشى مع طبيعته، وهو ينطبق مع قولنا: «لكل مقام مقال».
ارتباط الإماراتي بالبحر يشكل علاقة تأخذ أبعاداً حضارية وتاريخية.. كيف ترى هذه العلاقة؟
تجلت العلاقة بين ابن الإمارات وجاره الأزلي (البحر)، في الكثير من أشكال حياة ابن الإمارات، التي تخضبت بالأزرق، وحاورت المطلق، ونشأت جراء ذلك عادات وطقوس وتقاليد اجتماعية وثقافية وإبداعية خصبة. وما أجمل الأمثال الشعبية، التي ما زالت حية في وجداننا. ولعل منها: «البحر له ناس لفيحة.. يعرفون التوح من اليرة.. مب كل من تاح سريحـة، قال هذا خيط وبايّـــــره». واللفيحة: الصيادون الذين يجيدون صيد الأسماك بطريقة «اللفح»، وهي رمي الشباك في أعماق البحر، و«التوح» هو رمي ما يتعلق بمعدات البحر وحسن استعمالها، والسريحة: خيط من القماش ضعيف جداً، لا يعتمد عليه في مهن وأدوات البحر أو الصيد؛ لعدم قوته، والخيط: هو الذي يستعمل لصيد الأسماك. وهذا المثل ينطبق على أي إنسان ليست لديه خبرة بأي مجال من المجالات، ويتمادى في الأشياء التي لا يفهمها؛ فلكل مهنة روادها المهرة المتمرسون. كما يدعو إلى ضرورة الإلمام بأساسيات المهن وأصولها الدقيقة قبل ممارستها. وهناك «المسافر له في البحر طريق»، ويدل هذا المثل على أن الله تعالى يسهل الأمور ويذللها لمن يشاء؛ فلا تيأس، واجتهد في الطلب؛ فالبحر رغم أهواله يجعل الله فيه طريقاً سالماً للمسافر فيه.
ما الذي تأمل أن يكتسبه الجيل الحالي من هذه الأمثال البحرية؟
أريد أن يدرك الجيل الحالي أن هذه الأمثال ليست مجرد كلمات قديمة، بل هي حكايات غنية بالحكمة والتجربة. فالبحر كان - وما زال - معلماً لنا، فقد علمنا كيف نواجه الحياة بعزيمة، وصبر، ومرونة. ومن خلال هذه الأمثال، يمكن أن نتعلم الكثير عن قيمة العمل الجاد والاحتساب، وأن الرزق لا يأتي بسهولة، بل يتطلب جهداً وحساباً مسبقاً. وأخيراً، أود أن يواصل الجيل الحالي الحفاظ على هذه الكنوز الثقافية، وأن ينقلها إلى الأجيال القادمة.