أوجدت مواقع التواصل الاجتماعي عالمًا جديدًا مختلفًا، أثَّر في العديد من جوانب الحياة، من خلال سيطرتها على المفردات الحياتية الأساسية لمعظم البشر، والقراءة من أهم هذه الجوانب التي تأثرت بها بشدة، كسلوك إنساني. وقد ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في جعل الصورة عنوانًا لها، وثيمة رئيسية في مفرداتها، فالصور تتلاحق على الإنسان عبر الشاشات الزرقاء، كأمواج لا تتوقف، وأصبح الإنسان يعيش جزءًا كبيرًا من وقته أمام هذه الشاشات، يقلب في رصيد الصور اللامتناهي؛ فتناقصت أوقات الفراغ التي كانت توجه إلى القراءة، وأصبحت القراءة اليوم، خاصة القراءة المتعمقة، سلوكًا متمردًا على نمط العصر الحديث.
لقد تم اختزال المعرفة في تجميد لحظة من الزمن في صورة، أو تدفقها في فيديو. ومع هذا التغير المتدفق كالسيل، لم يعد مطلوبًا من الإنسان في العصر الحديث أن يتوقف كثيرًا أمام صورةٍ ما ليتأملها، بل عليه أن ينتهي من ملاحظتها، ثم يمرر الشاشة بإصبعه إلى صورة أخرى، وأن يكون تفاعله سريعًا.
لقد احتلت الصورة الصدارة؛ بسرعة تغيرها، واستهلاكيتها بشكل خاطف، وألوانها المبهرة، ومداعبتها الشغف البصري عند الإنسان. هذه العوامل كلها جعلت الصورة تزيح القراءة جانبًا، فأصبحت القراءة العميقة مقصورة على النخب المثقفة، والمفكرين؛ فالنصوص المقرونة بالصورة، لو كانت طويلة، لا يلتفت إليها أحد، وإنما فقط القصيرة، والمكثفة؛ فلم يعد هناك وقت للقراءة الطويلة والعميقة؛ لأن المتابع يريد أن ينتقل إلى صورة أخرى جديدة بسرعة، حتى لا يفوته الجديد الذي يتغير كل ثانية.
القراءة العميقة ليست مجرد وسيلة للتلقي المعرفي، بل غوص في معاني النصوص والأفكار، وبناء مستمر للعقل، وتفكيك العالم، وتأمل الذات؛ فهي بمثابة تأمل ذهني عميق، وهذا ما لا توفره الصورة، ولا يتناسب مع عصر الإعجابات، والمشاركات، والحكايات المسلية المستهلكة.
إن يومنا مملوء بالتغريدات، والمقاطع القصيرة، والعناوين المبهرة دون مضمون حقيقي، وهذا هو الاستهلاك المعرفي اليومي للبشرية حاليًا، فلم يعد الإنسان قادرًا على الصبر أمام نص طويل، أو كتاب يحتاج إلى التفكيك، وإعادة بناء الأفكار.. ورويدًا رويدًا قد ينقرض القارئ العميق.
ولا يعني كل ما فات أن سيطرة الصورة شرٌّ مطلق، بل تكمن المشكلة في استبدال الفكر والقراءة العميقة بالصورة. لذا، لا بد من البحث عن وسائل تحقق التوازن الكافي بين الصورة كمصدر للبهجة والمتعة والمعرفة السطحية، وبين القراءة المتعمقة كمصدر للمعرفة والفكر، وقيمتها كقوة مقاومة لسلوكيات الحياة الفارغة من المعنى، التي يقضيها معظم البشر أمام الشاشات الزرقاء. هنا، تصبح القراءة شكلًا من أشكال مقاومة اختزال فعل الإنسان إلى الاستهلاك فقط.. نحتاج إلى إعادة التفكير في هذا التوازن!