في بعض لحظات الحياة يشدنا الماضي، ونشعر بالحنين إلى تلك الأيام القديمة، حين كنا أطفالاً نركض في رحابة الفطرة، ونقطف من السماء قطع الغمام نخبئ فيها أمنياتنا وأحلامنا البريئة، نهرب من صخب الأيام والحاضر إلى ألبوم صورنا القديمة، أتأمل تلك الصورة الواضحة الذكرى في الروح، وتأخذنا رحلة الحنين إلى ما وراء الصورة، وتلك اللحظات التي سبقت ثانية التجميد، وفي لحظة تنوير حالية وجدتني أتمتم تغيرنا، فما الذي تغير فينا؟ وما الفارق بين طفولتنا وبين اللحظة الآنية؟

إنها رحلة الحياة التي سرناها عبر سنوات العمر تراكمت فيها ذكرياتنا وخبراتنا وتجاربنا الحياتية التي شكلت هويتنا الفردية، ونحتت ملامحنا الإنسانية على جدران الروح، في تلك الأيام كانت حياتنا ممتلئة بالركض والضحكات الصافية، كنا نصحو على صوت أمي نختبئ في حضنها ونحن نمتص رحيق رائحتها الزكية، وكان حضنها هو العالم كله لنا نستسلم للمسات كفها الحانية، ثم نركض على رمال صافية، ونستظل تحت ظلال أشجار الغاف نحكي ونضحك ونلعب، ونركض إلى المدرسة، نحترم معلمنا الذي يزرع فينا القيم الإنسانية قبل أن ينقل لنا المعرفة، وعند العودة نلتحم مع جيراننا، ونضحك ونستقبل لمسة حانية من أهل الفريج، وتجمعنا البيوت تحت أسقفها التي كانت تلطف أرواحنا بالمحبة، وحين يأتي المساء كانت تجمعنا الحكايات تحت ضوء القمر ونسمات الليل الباردة، لقد كانت حياتنا بلا شاشات زرقاء ولا أرقام سرية وصوت تنبيهات باردة الروح، كنا نتوحد مع الطبيعة نتعلم منها، ونبني رؤيتنا للحياة عبر كلمات أبي الذي كان يعلم كل شيء، هكذا كنا نراه، وعبر حضن أمي الذي كان فيه العالم كله. 

تغيرت ملامح الحياة ومفرداتها عبر السنوات، تطورت التكنولوجيا وسيطرت الشاشات الزرقاء، وأصبح الطفل يستيقظ على صوت منبه الهاتف المحمول، وفور ذلك ينغمس داخل شاشته يمارس تلك الألعاب الإلكترونية في عزلة بلا رفيق، تحت سيطرة خوارزميات لا تعطينا ما نحب، بل تزرع فينا ما تريد ونحن داخل جدران إسمنتية شُغلت فيها الأم داخل عزلة الاهتمامات الفردية، وغاب الأب منغمساً في أعماله، وظل الطفل حبيس جدران الإسمنت ومع كل ضغطة شاشة تنمو معرفته بصورة أكبر. طفل اليوم ذو العشر سنوات قد يحمل قدراً من المعرفة أكبر من شاب في الثلاثينيات قبل خمسين عاماً، لكن هي معرفة أنتجتها العزلة، فغابت عنها الروح، وتضاءلت أمام خوارزميات التكنولوجيا العاطفة.

طفل الأمس كان أكثر اتصالاً بالحياة والطبيعة والمجتمع، وكانت التجربة الفردية هي معلمه الأهم، فلم نكن نرى طفلاً مصاباً باضطراب التركيز ولا العزلة والانطواء الاجتماعي نتيجة انخراطه في عالم افتراضي أصبح بديلاً عن واقعه.

أغلقت ألبوم الصور، وأنا أدرك أن التغير هو سنّة كونية حتمية لا يمكن تجاوزها، وأن الحنين إلى تلك الأيام يبقى مجرد شغف مستحيل العودة إليه، ولكن لا بد أن ندرك أن ثمة حاجة حقيقية أن نعيد التوازن لطفل العصر الحديث، لا بد أن ندفعهم للانخراط في مفردات الحياة الواقعية، وأن يتصلوا بالطبيعة، وأن ندعهم يتحركون ويندفعون نحو تجاربهم الفردية في الواقع بعيداً عن العالم الافتراضي لا نتركهم يعيشون الحياة عبر المحاكاة الافتراضية، إنهم يحتاجون إلى حضن الأم الدافئ وحكايات الأب وضحكات الجيران، لا بد أن نحميهم من ذعر البطارية، حين يفرغ شحنها، فالحقيقة أن العالم الحقيقي لا تفرغ بطاريته أبداً.