ميثاء الهاملي.. امرأة انتصرت لنفسها بالكلمة
بالعاصمة أبوظبي، استقبلتنا الدكتورة ميثاء سيف الهاملي بابتسامة تُشبه قصائدها، في بيتها، الذي يشبهها؛ فهو أنيق، ودافئ، وغارق في التفاصيل، التي تنتمي إلى الروح. ففي أرجائه، تنتشر صور صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، كأنها مرآة لقلبٍ لا ينبض إلا بالولاء، وشاهد على مسيرة امرأة آمنت ببلدها ونفسها؛ فغدت على قَدْر الحلم. وعلى بعض الجدران، علقت لوحات، بطلاتها نساء لا يجلسن في الإطار، بل يخرجن منه؛ ليحكين قصصاً عن الصداقة والصبر، والانتصار. أما الزوايا، فتكثر بها قوارير العطور، والمباخر، التي تمنح الضيف عبق الضيافة الإماراتية الأصيلة، حيث الرائحة مقدمة للحكاية، والدفء بداية اللقاء.
تجلس الدكتورة ميثاء، بجمالها الهادئ، كامرأة تبدو كأنها خرجت لتوّها من رواية، فلا يشي عمرها بما مرّ بها من تحديات، بل تقول ملامحها: «أنا انتصرت».. إنها أم فخورة، وشاعرة بالفطرة، وقائدة بالفكر، لا تنظر خلفها إلا لتروي، لا لتندم. فحكايتها ولدت من قلب الذاكرة، ومن دفء الجدّ، ومن يدٍ كانت تمسك بحلم الطفولة؛ كي لا يسقط. هكذا كانت بداية ميثاء، طفلة تبحث عن الجمال في ملامح الجد زعل بن سيف الفلاحي، وفي كلمات والدها، ثم في ضوء الحروف، حين وجدت في القصيدة ما يعادل الحضن والوصية. كتبت باسم مستعار، واختارت لنفسها اسم «شيمة»؛ لتخبئ صوتها ليس خوفاً، بل احتراماً للمكان والقبيلة والتقاليد. لكنها كانت تدرك - منذ البداية - أن من تكتب بهذا الصدق، ستقول يوماً للعالم: «أنا ميثاء.. وهذا اسمي الحقيقي». وتوضح الدكتورة ميثاء الهاملي أن الحياة حرمتها مبكراً الأب والجد، لكنها علمتها ألا ترتضي إلا التفوق، وأن تصنع من الألم سلماً إلى المجد؛ وعنهما تقول: «كانا سندي وظهري.. ولما غابا، لم يكن أمامي إلا أن أقف وحدي، شامخةً، حتى لا أخذل اسمي، أو أضيع تربيتهما». ورغم مرارة الفقد، ظلت الأم نبضها الثابت، تقول عنها بعاطفة دافئة: «ما زالت أمي هي السند لظهري، والشريان القوي الذي يربطني بالحياة.. فوجودها بقربي يغمرني بقوة لا تشبه سواها».
-
ميثاء الهاملي.. امرأة انتصرت لنفسها بالكلمة
طفولة ممهورة بحب زايد
لا يكتمل حديث الدكتورة ميثاء، دون أن تذكر المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، ليس كقائد فقط، بل كرمز للمستحيل الذي يتحقق. تبتسم، وهي تسترجع أول لقاء جمعها بـ«أبوي زايد» كما تناديه.. وتقول: «كنت في الصف الثالث الابتدائي، قالوا لنا: إن الشيخ زايد سيزور الظفرة؛ لافتتاح جمعية المرأة الظبيانية. لم أستطع النوم من فرط الحماسة.. جهّزنا كل شيء، ووقفنا ننتظر داخل فناء أحد البيوت الشعبية، الذي استضاف الجمعية. حين دخل؛ شعرت بأن الحلم صار حقيقة».. تتوقف قليلاً، ثم تتابع: «أصبحت مديرة مدرسة، وأنا في التاسعة عشرة من عمري. لم يكن الأمر سهلاً، لكنه كان ممكناً، بفضل الدعم والثقة من شيوخنا، الذين آمنوا ببنت الإمارات، وقدرتها على القيادة».
من الظفرة.. إلى أبوظبي
الانتقال إلى العاصمة لم يكن سهلًا: غصّة لا تهدأ، وشوق، وبكاء على الطرقات.. لكن ميثاء جعلت من ألم الفقد وقوداً للنجاح؛ فتابعت مشوارها، وكان الشعر رفيقها الدائم. ثم أصدرت مؤلفات عدة، أبرزها «شيمة»، الذي أعلنت فيه عن اسمها الحقيقي، تبعه: «سما روح»، و«وطن آخر»، و«نبضة 82»، و«لعيون سيف».. تقول: «الكتابة أنقذتني، فقد كنت أكتب وأتأمل، ثم أقرأ ما كتبته بعد أعوام، فأندهش من تلك الفتاة.. من تلك الحالة». إن كل كتاب ألفته يحمل جزءاً من روحها، لكن الأقرب إلى قلبها يبقى «لعيون سيف»؛ لأنه - وفق ما تخبر - يوثّق طفولتها بصدقها وبساطتها. أما «نبضة 82»، فكان استذكاراً لعام ما قبل الرحيل، عام كان فيه الأحباب مجتمعين، قبل أن يُغيّب الموت والدها في 1984؛ فقد كان أبوها صديقها وسرها، «وضعني على أول السلم.. ورحل»، تقولها بحنين لا ينكسر، وتضيف: «الأب لا يُعوّض، فهو العز الحقيقي، واسمك يظل مرتبطاً باسمه، حتى في القبر».
زمن «السوشيال ميديا»
وجدت الدكتورة ميثاء في «السوشيال ميديا» صوتها، وصورتها، وهويتها في فضاء مفتوح، يتيح لها أن تُرى وتُسمَع كما هي. وعبر الإعلام، فتحت نوافذ جديدة لهوية الإمارات. أما في «رس الدار»، و«كسرة عود»، فأعادت تشكيل صورة المرأة الإماراتية كما تعرفها.. متمسكة بجذورها، وصانعة للمعنى، ومُلهمة للأجيال.. تقول: «تراثنا أغنى من أن يُشوَّه في الدراما؛ فلدينا حكايات تكفي لصناعة ألف عمل، فقط لو أعيد تقديمها بصدق».
الرسالة الأسمى
تسترجع ميثاء ذلك الزمن البعيد بعينٍ يغمرها الامتنان، حين كانت «جمعية المرأة الظبيانية» أشبه ببذرة صغيرة، زُرعت في أرض الوطن، وسقتها سمو الشيخة فاطمة بنت مبارك، رئيسة الاتحاد النسائي العام رئيسة المجلس الأعلى للأمومة والطفولة الرئيسة الأعلى لمؤسسة التنمية الأسرية (أم الإمارات)، بإيمان عميق بحق المرأة في التعلم والقيادة.. توضح: «نحن بنات الظفرة، كنا نراها بيننا، تدخل المدارس، وتحث الأمهات على الدراسة، وتفتح لنا أبواباً لم نكن نعلم حتى بوجودها». وحين تُسأل عن المرأة الإماراتية، تصمت لحظة؛ كأنها تستحضر طيف كل امرأة وقفت على أول الطريق، ثم تقول بنبرة يختلط فيها الاعتزاز بالعرفان: «منذ تأسيس (جمعية المرأة الظبيانية)، وسمو (أم الإمارات) تُمسك بأيدينا. ففي وقت لم يكن فيه التعليم متاحاً للجميع، طرقت الأبواب، وفتحت الفصول، وشجّعت الأمهات قبل البنات. لم يكن ما فعلته مجرد دعم للتعليم، بل كان ميلاداً لوطن جديد!».