نصرة البوعينين: المتاحف تنسج روابط وجدانية بين الناس والتاريخ

كانت نصرة البوعينين، مديرة إدارة التعليم والمشاركة المجتمعية في متحف زايد الوطني، منذ الطفولة ترى بعداً في الأشياء أكثر من شكلها الخارجي؛ فكانت تحدّق في الألوان، والزخارف، وتفاصيل الحياة اليومية، كأنها تبحث عن سرّ خفيّ للجمال؛ فتسأل نفسها: لماذا يلفتنا هذا المشهد ولا يلفتنا ذاك..؟ ذلك الفضول الطفولي

كانت نصرة البوعينين، مديرة إدارة التعليم والمشاركة المجتمعية في متحف زايد الوطني، منذ الطفولة ترى بعداً في الأشياء أكثر من شكلها الخارجي؛ فكانت تحدّق في الألوان، والزخارف، وتفاصيل الحياة اليومية، كأنها تبحث عن سرّ خفيّ للجمال؛ فتسأل نفسها: لماذا يلفتنا هذا المشهد ولا يلفتنا ذاك..؟ ذلك الفضول الطفولي كبر معها، واتخذ شكله المهني حين قررت دراسة الفنون، واختارت أن تسلك درباً تخصصياً نادراً في المنطقة (التعليم المتحفي). وقبل أشهر قليلة من الافتتاح التاريخي لهذا الصرح الثقافي المنتظر، تأخذنا نصرة - في حوارنا معها - إلى كواليس عملها المتحفي، حيث تسعى إلى تحويل كل زيارة للمتحف إلى تجربة وجدانية تروي قصة، وتوقظ سؤالاً، وتترك أثراً؛ لنكتشف كيف يمكن للمتحف أن يتحول إلى مساحة تعليمية، وتفاعلية، حقيقية:

من حب الفنون البصرية إلى ريادة التعليم المجتمعي في المتاحف.. كيف بدأت الحكاية؟

منذ طفولتي، كنت أبحث عن الجمال في التفاصيل الصغيرة.. في الضوء، والألوان، والأشياء التي تلفت نظري، وأتساءل: «لماذا تبدو جميلة؟».. هذا الفضول البصري كان شرارة شغفي بالفنون. مع الوقت، أصبحت لديَّ رغبة في فهم الأعمق، ورؤية ما وراء الشكل. وفي الجامعة، بدأ هذا الفضول ينمو في بيئة إبداعية خصبة، وجدت فيها نفسي بين تخصصات الإعلام والتسويق والتواصل البصري. لكن التحوّل الحقيقي حدث عندما أتيحت لي فرصة دراسة الماجستير في جامعة السوربون بأبوظبي، وتحديدًا تاريخ الفن وعلم المتاحف. حينها، أدركت أن المتحف ليس مجرد مساحة عرض، بل منصة تحكي القصص، وتصنع روابط وجدانية بين الناس والتاريخ. شدّني - بشكل خاص - مجال التعليم المتحفي؛ لأنه لا يكتفي بسرد المعلومة، بل يبحث في طرق إيصالها، وتفاعل الجمهور معها.

  • نصرة البوعينين: المتاحف تنسج روابط وجدانية بين الناس والتاريخ

جمهور المتاحف

ما المقصود بالتعليم المتحفي؟

التعليم المتحفي علم وفن في الوقت نفسه؛ فهو جسر بين القطعة المعروضة، والزائر. نتأمل كيف نروي قصة كل قطعة، وكيف نجعلها قريبة من الزائر، فتخاطب وجدانه لا عقله فقط. نحن لا نلقّن، بل نثير التساؤلات، ونحث على الاكتشاف، ونحرص على أن يرى كل شخص نفسه في القصة. وفي متحف زايد الوطني، عملنا - منذ البداية - على أن يكون السرد المعرفي إنسانياً وتفاعلياً؛ فحتى اللوحات التعريفية لا تتحدث بلغة أكاديمية جامدة، وإنما بلغة تفاعلية، أشبه بحديث مع الزائر، وليست كمحاضرة. نحن نريد أن يشعر الزائر بأنه «يقرأ قصته» لا تاريخ بلاده فقط. كما أننا نضع برامج تعليمية مخصصة لجميع شرائح المجتمع، من طلبة المدارس، إلى كبار السن، وأصحاب الهمم، ونعمل على تطوير برامج ميدانية وتدريبية مستمرة، وورش عمل تُقام في المتحف، وخارجه.

كيف تقيّمين جمهور المتاحف اليوم، وما دور هذه الصروح في بناء الهوية الثقافية؟

الجمهور، اليوم، ليس كما كان قبل عشر سنوات؛ فهناك وعي ثقافي متزايد، ورغبة حقيقية في الفهم والمشاركة. إن المتاحف، خاصة في الإمارات، لعبت دوراً كبيراً في هذا التحوّل؛ فصار الجمهور جزءاً من الحراك الثقافي، وليس فقط متلقياً؛ لهذا أصبح من المهم أن نستمع إليه، ونسأله عمّا يريد، ونقدم معه البرامج بدلًا من فرضها؛ لأن التفاعل اليوم يتطلب منا تجربة أفكار جديدة، حتى إن لم تُجرب عالمياً؛ لأننا نخاطب جمهوراً فريداً في تركيبته الثقافية والاجتماعية، ولا يمكن استيراد التجارب كما هي. إن التواصل المجتمعي لم يعد خياراً، فقد أصبح أساساً، وكلما كانت البرامج مرتبطة باهتمامات الناس، وتجاربهم اليومية، وُلد التفاعل الحقيقي، وحدث التأثير العاطفي، والمعرفي، المطلوب.

برامج مجتمعية وتعليمية

ما الذي يميز متحف زايد الوطني عن غيره من متاحف المنطقة؟

يحمل المتحف اسم قائد، وحكاية وطن؛ فهو تجسيد لرؤية المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، الذي أدرك أهمية حفظ التاريخ وتقديمه للأجيال. والمتحف لا يروي تاريخ الاتحاد، أو قصة قيام الدولة فحسب، بل يتتبع جذور الإمارات منذ ما قبل الميلاد، ويُظهر كيف شكّلت هذه الأرض حضارة ممتدة، لأكثر من 300 ألف عام. فما نفعله نحن - كفريق تعليم ومشاركة مجتمعية - هو ربط هذه القصة بالناس، وجعلهم يتفاعلون مع القطع المعروضة، ويرونها جزءاً من هويتهم. 

كيف تترجمين هذه الرؤية في البرامج المجتمعية والتعليمية، بمتحف زايد الوطني؟

إن كل فئة في المجتمع تستحق أن ترى نفسها في المتحف؛ لذلك نطوّر برامج مخصصة لأصحاب الهمم، وكبار السن، والأطفال، والشباب، ونذهب إلى من لا يستطيعون الوصول إلينا، ثم نعمل على تسهيل قدومهم إلينا، فهدفنا النهائي هو أن يأتوا إلى المتحف، وأن يشعروا بأنه مكانهم، وأن فيه ما يناسبهم، ويحتضنهم. كما نريد أن يكون المتحف تجربة شاملة لا تُقصي أحداً؛ إذ إن لدينا محتوى علمياً غنياً، يُقدَّم بأسلوب إنساني. فمن خلال المسرح، والموسيقى، والعروض، والجولات، والتجارب الحسية، نحفر المعرفة في الذاكرة، لا في الصفحات.

إلى ماذا تطمحين على المستويين المهني، والشخصي؟

في البداية، كان عددنا كإماراتيين في هذا المجال قليلاً جداً، لكن اليوم ازداد عددنا. وقد واجهنا، سابقاً، نقصاً في الدورات التدريبية المتاحة؛ لأننا لم نكن نعرف من أين نبدأ، وإن وُجد لدينا الشغف لدخول هذا المجال. الآن، أرى جيلاً جديداً يمتلك شغفاً حقيقياً بالاطلاع والمعرفة، ورغبة عميقة في نقل رسالتنا الثقافية. فهؤلاء يجب أن نستثمر فيهم!.. وطموحي أن أسهم في بناء هذه المنظومة، ونحن نركز - بشكل كبير - على التدريب الداخلي، ونُعد كوادرنا بأنفسنا، ولا نعتمد على مدربين خارجيين؛ لأننا ندرك تماماً ما نريده، وأنا شخصياً أعرف التحديات والنواقص التي قد لا يدركها المدرب الخارجي، وحتى لو استعنا بمدربين من الخارج، فإننا نوجههم بدقة إلى ما نطمح إليه. إن هدفي الأساسي هو تأهيل الدفعة القادمة من القادة الثقافيين، فهؤلاء القادة موجودون بيننا بالفعل، لكنهم يحتاجون فقط إلى الفرصة والدعم؛ ليبرزوا، ويأخذوا مكانهم.