من أكثر المفاهيم جدلاً وتعقيداً، في الثقافة الإنسانية الحديثة، مفهوم «تحرير المرأة»، فكم أثار من جدليات ومشاعر متضاربة، وأحياناً تحول إلى صراعات مفتوحة بين مؤيد ومعارض. وتكمن أزمة هذا المفهوم في الاختزال والجنوح نحو القناعة بجانب واحد من مكوناته، هو الجانب الظاهري، إلا أن حقيقة المفهوم أبعد من ذلك، فلا يعني تحرر المرأة تغييراً خارجياً في مظهرها، أو تقليداً لأنماط ظاهرية لمجتمعات غربية، بل هو عملية عميقة المعنى، والفهم، والشمولية.

ولتفكيك تلك الإشكالية؛ ننظر إلى مفهوم تحرير المرأة من منظورَيْن أساسيين: الأول: يرتبط بالتحرر من الموروث السلبي الظاهري. والثاني: يتعلق بالتحرر من قيود العقل والتبعية، وكلاهما ضروري، لكن الثاني هو أصل المفهوم، والمعنى الحقيقي له.

تقع مجتمعاتنا في أزمة اختلال بوصلة الوعي، ويُفهم «التحرر» على أنه التخلي عن الضوابط المجتمعية، والتقاليد، والأعراف، التي فُرضت على المرأة تراكمياً عبر العصور المختلفة؛ فحددت أدوارها، ونمطَ حياةٍ محدوداً لها.

كثيرات من النساء يقفن عند هذا الجانب السطحي من المفهوم، ويتعاملن معه كأنه المسوغ الحقيقي لحصولهن على حريتهن؛ فيخرجن عن العادات والتقاليد المجتمعية بصورة ساذجة، ومبالغ فيها؛ عبر رفض مطلق - دون وعي - لكل معطيات الثقافة المجتمعية، والموروث القيمي.

ويبقى السؤال: هل التحرر من المظاهر يكفي، وهل مجرد تغيير نمط المظهر يعني أن المرأة تحررت؟!

حتماً هذا وعيٌ مُشَوَّهٌ للتحرر؛ لأن هذا التحرر الظاهري لا يعني تحرراً داخلياً حقيقياًَ. فكثيرات من النساء - رغم تحررهنَّ، وخروجهنَّ إلى سوق العمل - حتى الآن يعشن تحت وطأة مفاهيم وقناعات مجتمعية مُكبِّلة للعقل، مثل: الخوف من حكم المجتمع، أو الشعور بالدونية النوعية، أو التنازل عن الحقوق الشخصية؛ لإرضاء المجتمع. وهذا يقودنا إلى المفهوم الحقيقي والأعمق والأصعب في معادلة إعادة التوازن إلى المرأة، وهو التحرر من قيود العقل؛ لأنه يتطلب التعامل مع قناعات متراكمة عبر تاريخ طويل من دفع المرأة إلى خلفية المشهد، وحبسها داخل «قمقم» من الأفكار، والمفاهيم السلبية، التي تجعلها تابعاً وخاضعاً مطلقاً لسلطة أخرى؛ فتبتلع رأيها، وتظل رفيقة الصمت والصراخ الداخلي، مستسلمة للتلقين؛ لتكون مستقْبِلةً، ومنفِّذةً لأفكار ومفاهيم المجتمع دون نقد.

إن تحرر المرأة الحقيقي هو أن تمتلك أدوات النقد والتفكير المستقل، وأن تكون قادرة على مساءلة كل الموروثات السلبية، التي حجبت عقلها؛ لتصبح قادرة على الاختيار، وتحديد مصيرها بحرية معرفية، وليس بحرية جاهلة، وليس بدافع تقليد المجتمعات الأخرى، أو الهروب من الواقع الحقيقي إلى واقع مزيف، وأن تفعل ما تراه مناسباًَ؛ ليس لأن الآخرين يفعلونه، بل لأنها توصلت - عبر وعيها، ومعرفتها - إلى قناعة شخصية به.

المرأة التي تتحرر فكرياً ومعرفياً، حتى لو ظلت داخل مفاهيم الظاهر، أكثر إيجابية للمجتمع من التي تحررت بصورة زائفة تحرراً مظهرياً، بلا قيمة فكرية أو معرفية.

فهل سنكتفي بالنظر إلى تحرر المرأة من خلال عدسة المظاهر الخارجية، أم سنتخطى تلك المرحلة إلى التحرر الأعمق، وهو تحرر العقل والفكر والمعرفة، من التلقين، والجبر المجتمعي؛ لنصل إلى ممارسة حقيقية للإنتاج العقلي من أجل المجتمع؟!