في رحلات عبور الحدود، أو اجتياز المفاوز والجبال والشواطئ المنسية، ترمقنا على أطراف المدى تلك المساجد الصغيرة البعيدة النائية، المبنية على الطريق، وكأنها ترسل نداءً خفياً لامعاً وصافياً خارج مواقيت الصلاة والاستراحة، تتنادى مع أرواحنا بهمس «نوستالجي»، مثل نداء البيت الأول في الطفولة، بل أبعد وأعمق من ذلك بكثير، إنه شيء لا يمكن وصفه أو إدراكه بالحواس الإنسانية الأرضية. تحتفظ تلك المساجد الصغيرة على الطريق بمودة روحية، وذبذبات صافية نقية، أكثر من تلك المُشيّدة بضخامتها بين المدن، أو المزحومة بالمصلين في القرى المأهولة بالبشر.

المساجد على الطريق تبدو كصوفيٍّ يتعبّد في خلوته، أو كضوء مشكاة في طريق مظلم طويل، أو كطفل في المهد يتبسَّم لمخلوقات خفية. تدعوك تلك المساجد إلى التمهّل والتوقف؛ لأخذ فسحة تعبدية، وخلوة تفكُّرية، ووقفة لإعادة الاتصال بالله، والاسترشاد به خارج مواقيت الصلوات، حتى وإن كانت أبوابها مغلقة في وجه العابثين بأجزائها؛ فهي تجذبك نحو طاقة جدارها، المحتفظ بترددات السماء، وطاقة اللائذين بالراحة الوصالية، والتنادي الروحانيّ مع الله.

أغرب وأجمل مسجد في الطريق، ذلك الذي رأيته على مشارف «وادي الشرية» في الفجيرة؛ فقد حُدد محرابه ورُصَّ محيط مربعه الصغير بالحجارة، ولا يتسع إلا لأربعة أشخاص، وغالباً تصلي فيه وحدك، وربما يصلي الثلاثة الآخرون معك في الخفاء!.. فيكون قلبك مفتوحاً على الهواء والفضاء المطلق، فهو مسجد أو مصلى، أو «محراب وحيد» ترغب في الصلاة به وحيداً خارج مواقيت الصلاة الواجبة، صلاة حرة بينك وبين الله.

أكرر.. بالتأكيد ليس هنالك أحد معك سوى الأشجار والريح والأفلاج وماء الوادي والجبل، وهذه جميعاً تصلي معك أو خلفك، في تناغم كونيّ مهيب. إنها صلاة كونية، صلاة الجلالة والعظمة والأعماق والطبيعة، تكون ساعتها كل ذرة بداخلك في حالة اتحاد وتسبيح واستنارة.

وأعرفُ مسجداً آخر على طريق جبلي بعيد، أتردد إليه رغم المسافات الشاهقة، التي أقطعها بين حدود القرى والحقول والأودية، وما إن أتوضأ بمائه حتى أستشعر نهضة الأوصال وانبعاثها الجديد، وإذا ما فتحتُ بابه ابتهج - بوصالي وعودتي إلى رحم الصلاة - ذلك النور المتجلِّي من نافذته الصغيرة، وكأن النور المخترق لزجاج النافذة كيان حيٌّ دفَّاق بالشعور الحامي والراعي والحارس، ومرشدٌ ينتظر عودة مريديه.

وما إن أفتح زجاج نافذة النور حتى تسطع الشمس من وراء جبل، شهقت قمته الهرمية الحادة كنقطة معراج للدعاء والصلوات والتسابيح، أو نقطة ارتكاز لتجلي الكرامات على الأولياء!.. في ذلك المسجد البعيد على طريق جبلي وعر، يصمت كل شيء خارجي؛ لأقوم بترتيب مسجدي الداخلي، والإصغاء إلى صوت الفضاء النوراني فيه، حيث القلب صار رحباً كالسماوات، وزاوية النظر بدت أكثر اتساعاً وتفهماً وإدراكاً لحكمة الوجود.

أخرجُ من ذلك المسجد وقد صَغُر العالم من ورائي.. ومن أمامي اتضحت الحياة، واتسعت رحاب المعنى..!