في لحظات معينة من حياتنا، نُفاجأ بأننا نتصرف بشكل لا يشبه ما نعتقد عن أنفسنا: نبالغ في الحذر، أو نتجنب المواجهة، أو نتمسك بعلاقة مؤذية، رغم معرفتنا بأنها تستنزفنا. قد نبحث عن تفسير في ضغوط الحاضر، أو تعقيدات العلاقات، لكن كما يؤكد الدكتور آرام حسن، استشاري الطب النفسي والمعالج في المركز الأميركي النفسي والعصبي، فإن الكثير مما نعيشه، اليوم، له جذور أعمق بكثير، تعود إلى ماضٍ قد لا نتذكره بوضوح، لكنه لا يزال حيًّا في اللاوعي.

  • «أشباح الماضي».. جذور الذكريات تمتد إلى الحاضر

جذور الألم.. طفولة مكبوتة وأنماط موروثة

في لحظة ما، وأنت تضحك مع أصدقائك، أو تدخل في نقاش عابر، قد يداهمك شعور مبالغ فيه بالقلق أو الغضب، لا يتناسب مع الموقف أمامك؛ فتتساءل: «لماذا تفاعلت بهذا الشكل؟».. والحقيقة أن ما شعرت به ربما لم يكن رد فعل على الحاضر، بل صدى بعيد لذكرى قديمة ما زالت تسكن أعماقك. هنا تبدأ الحكاية.. رحلة في أعماق الطفولة المكبوتة، حيث تتشكل الأنماط العاطفية الأولى، وتُزرع بذور الخوف أو الأمان؛ لتمتد جذورها إلى كل قرار وعلاقة نخوضها كبالغين.. نغوص مع الدكتور آرام حسن، في مفاهيم الجرح العاطفي الداخلي، وأنماط التعلق، والدوائر النفسية، التي نكررها دون وعي؛ لنعرف: هل ما نعيشه اليوم امتداد لماضٍ لم نُصَفِّه بعد؟

ومن بين المفاهيم المحورية، التي تفسر حضور الماضي في الحاضر، يبرز مصطلح «الطفولة المكبوتة»، فهي ليست مجرد ذكريات مؤلمة نتجاهلها، بل أحداث عاشها الطفل في سنواته الأولى، ولم يمتلك القدرة على مواجهتها؛ فاختزنها في عقله الباطن؛ حتى لا يتعرض لصدمات أخرى.. يوضح الدكتور آرام حسن: «هذه التجارب تظل كامنة، لكنها تتحرك حين نصادف مواقف مشابهة؛ فنجد أنفسنا نتفاعل بمبالغة، أو رفض، أو حتى بانعدام الشعور». فكيف تتشكل أنماطنا العاطفية منذ الطفولة؟.. يجيب استشاري الطب النفسي: «الذكريات المؤلمة ليست مجرد صور في أرشيف العقل، بل محفزات حية تؤثر في قراراتنا، حتى بعد عقود». ويوضح أن المواقف، التي نتعرض لها كبالغين، إذا تشابهت عاطفيًا مع أحداث الطفولة المؤلمة، فقد تثير فينا ردود أفعال مبالغاً فيها، أو انعدامًا كاملًا للشعور. فقد يرفض شخص فرصة عاطفية؛ لأنها تذكره - لاشعوريًا - بخيبة قديمة، أو يبالغ آخر في التعلق؛ لأنها توقظ داخله خوفًا قديمًا من الفَقْد.

أنماط موروثة

تتشكل الشخصية والأنماط العاطفية، لدى الطفل، من مزيج معقد من الوراثة، والتربية، والبيئة، ونمط الحياة العائلية. فالمدرسة والمجتمع، أيضًا، يضيفان طبقات جديدة من المؤثرات. ورغم هذا التنوع، يكون الأساس - كما يقول الدكتور آرام حسن - ما نحمله من استعدادات وراثية، وما نتلقاه من قيم وسلوكيات في السنوات الأولى. المشكلة تبدأ حين نكرر، دون وعي، أنماطًا عشناها في بيئة الطفولة، حتى لو كانت هذه الأنماط سببًا في ألمنا. هنا نكون أسرى لبرمجة نفسية لم نخترها، لكنها تتحكم في طريقة تواصلنا وتفاعلنا مع الآخرين. ويبين: «في بيئات صارمة، يتعلم الطفل أن الحب مشروط، والقبول مرتبط بالطاعة، فيكبر وهو يحمل خوفًا من الرفض. أما في البيئات المهملة عاطفيًا، فتنشأ مشاعر العزلة وفقدان الأمان. وفي الحالتين، يتأثر تكوين الشخصية بعمق؛ لأن الطفل لا يملك النضج الكافي لتحليل ما يحدث، فيلجأ إلى آليات وقائية، قد ترافقه طيلة حياته».

الجرح العاطفي.. اللاوعي يتكلم 

الجرح العاطفي، هو الأثر المتبقي من أحداث صادمة، كإهمال، أو عنف، أو إهانة، أو تنمّر. بعض الجروح تلتئم، لكن بعضها يترك ندوبًا خفية. يقول استشاري الطب النفسي: «هذه الصدمات قد تجعل الإنسان حذرًا بشكل مفرط، وفاقدًا للثقة، وأسيرًا للخوف من فقدان الآخرين، وأحياناً يكون مبالغاً في حمايته للأشخاص الأعزاء على قلبه، ويصل إلى حد الغيرة غير المبررة». على سبيل المثال، قد يفسر من تعرّض للإهمال العاطفي أي تأخر في الرد على رسائله بأنه إشارة للهجر، فيبالغ في القلق أو المطالبة بالطمأنة. وقد ينفعل شخص آخر بشدة على موقف عابر؛ لأنه أعاد تنشيط ذاكرة قديمة لم تُعالج.

  • «أشباح الماضي».. جذور الذكريات تمتد إلى الحاضر

الدوائر النفسية المتكررة.. لماذا نعيد الأخطاء نفسها؟

هل تساءلت يومًا: لماذا تنجذب، مرارًا، إلى أشخاص يحملون الصفات نفسها، التي كانت تؤذيك سابقًا؟.. يشرح الدكتور آرام حسن: «الصدمات القديمة تمنح قناعات راسخة في اللاوعي، مثل الشعور بعدم الاستحقاق أو الخوف من الفشل. فنختار، من دون وعي، ما يؤكد تلك القناعات». هذه الحلقة المفرغة لا تُكسر بالوعي وحده؛ لأن المشاعر والذكريات المؤلمة مخزنة في أعماق الدماغ كوسيلة دفاعية. هنا، يأتي دور العلاج المتخصص؛ لتفكيك هذه الشحنات العاطفية، واستبدالها بمشاعر جديدة أكثر صحة.

أنماط التعلّق.. مفاتيح لفهم الحب والخوف

تتشكل أنماط التعلق في الطفولة؛ فتحدد كيف نحب، وكيف نستقبل الحب:

• التعلق الآمن: يقوم على الثقة المتبادلة، والشعور بالقيمة، حيث يعيش الفرد علاقات مستقرة ومطمئنة.

• التعلق القلق: يتمحور حول الخوف من الهجر، والمبالغة في إرضاء الآخر؛ لتجنب الفقد.

• التعلق التجنبي: يبتعد عن العلاقات العاطفية العميقة، ويفضل الاستقلالية حتى لو كانت عزلة.

ويشير الدكتور آرام حسن إلى أن أكثر من نصف سكان العالم يعانون تعلقاً غير آمن، وأن المجتمعات الشرقية - بحكم عوامل التربية، والتقاليد - تميل إلى أنماط قلق، أو تجنب أكثر من التعلق الآمن.

التصالح مع الذات.. وقطع السلسلة

الوعي النفسي، كما يصفه استشاري الطب النفسي، هو بداية الطريق، لكنه ليس المحطة الأخيرة. فـ«الوعي يعزز القدرة على فهم الذات، لكنه لا يزيل أثر الذكريات المؤلمة وحده؛ لأن الدماغ يحاول تجنب استحضارها؛ لحمايتنا». وفي هذه الحالات، تُستخدم تقنيات علاجية، مثل: العلاج التحليلي، أو «EMDR»، ونسختها الملائمة ثقافيًا «CoEMDR»، فتعيد معالجة الذكريات المؤلمة، وتجريدها من شحنتها السلبية، فتتحول من مصدر للألم إلى ذكرى محايدة.

  • «أشباح الماضي».. جذور الذكريات تمتد إلى الحاضر

الشفاء.. والتعافي

يرى استشاري الطب النفسي أن مفتاح العلاج النفسي الشامل، والموجه، يبدأ بإدراك أن ما يعانيه الشخص، أو أحد المقربين منه، مشكلة نفسية قابلة للعلاج. والخطوة الأولى هي الاعتراف بوجود اضطراب أو صعوبة في الشخصية أو أسلوب التعامل، يليه طلب المساعدة النفسية من مختصين مؤهلين، ثم الاستمرار في العلاج، والتحلي بالموضوعية عند تقييم إمكانيات العلاج ونتائجه، وأخيرًا توفير الدعم الكامل للشخص الذي يخضع لهذه الرحلة. لكن، كيف نعرف أننا دخلنا فعلًا في مسار التعافي؟.. يوضح الدكتور آرام حسن أن هناك معايير واضحة لقياس التقدم، بعضها يعتمد على الاستبيانات، التي تُجرى في جميع مراحل التدخل العلاجي، وأخرى ترتبط بمدى تحسن الأعراض، ومضاعفات الصدمات، منها: انخفاض مستويات الخوف، واستقرار المزاج، وتراجع العصبية، وتحسن جودة الحياة، وتغيّر القناعات السلبية، وارتفاع القيمة الذاتية، وزيادة الثقة بالنفس. وبعد انتهاء العلاج، يمكن قياس هذه التغيرات باستخدام أدوات تقييم متخصصة، مثل «i-toolbox»؛ لمقارنة الوضع قَبْلُ وبَعْدُ.

مواجهة الماضي ليست عودة إلى الوراء

يختتم الدكتور آرام حسن، استشاري الطب النفسي، بالتأكيد على أن مواجهة أشباح الماضي لا تعني الغرق فيه، بل تحرير أنفسنا من قبضته. فالذكريات المؤلمة، إذا لم تُعالج، تتحكم في قراراتنا دون أن ندري. أما حين نواجهها ونعيد تفسيرها، سنصبح أقدر على العيش في الحاضر بوعي وحرية، ويقول: «الماضي ليس صفحة انطوت، بل أساس تُبنى عليه ردود أفعالنا اليوم. وتجاهله يتركنا أسرى لدوائر مكررة. أما مواجهته فهي الخطوة الأولى نحو حياة أكثر توازنًا، وسلامًا داخليًا».