في شهر أغسطس الماضي، شاركتُ في معرض «إكسبو أوساكا باليابان»، وقدمتُ - بجناح دولة الإمارات العربية المتحدة - محاضرة عن الاستدامة، وانعكاسها على جودة الحياة. كانت هذه زيارتي الأولى إلى اليابان، وفوجئت بأن شوارع المدن هناك لا تحرسها صناديق النفايات، ولا القرارات الإدارية الحكومية، بل يحرسها وعي فردي، تحول إلى ضمير جمعي متجذر في سلوكيات كل أفراد المجتمع. ففي أحد شوارع طوكيو، حين حملت كوب قهوة، وبحثت عن سلة لألقيه بها، فلم أجد، أدركت أن نظافة المكان ليست نتيجة تعليمات مكتوبة وملزمة، بل نتيجة لقيم أخلاقية ممتدة راسخة في ضمير المجتمع. حينها، أدركت أن الفضاء العام لديهم يُنظر إليه كامتداد طبيعي للمنزل، فكما يحافظ الفرد على نظافة بيته؛ فإنه يحافظ على نظافة الشوارع، بالقدر والاهتمام نفسيهما.
فكرة إزالة صناديق المخلفات من الشوارع بدأت لأسباب أمنية، خاصةً بعد «الهجوم بغاز السارين» على طوكيو في الثمانينيات. لكن ما يلفت النظر أن غياب الصناديق لم يصنع فوضى، بل ترسخ في ثقافة المجتمع، وتماهى معها، ولطالما ظل في إطار ينسجم مع الموروث الياباني. يؤمن اليابانيون بأن علاقتهم بالطبيعة علاقة رعاية متبادلة، وأن تخريب الطبيعة أو إهمالها نقض لذلك العهد، الذي يُعامل معاملة المُقَدَّس، ومن داخل الأسرة تبدأ التربية على احترام البيئة؛ باعتبارها شريكة في الحياة.
وإلى جانب البعد الثقافي، شكلت القوانين والتشريعات اليابانية إطاراً داعماً لهذه القيم، فمنذ عقود أقرت هذه الدولة أنظمةً قننت فَرْزَ النفايات، وشجعت البيوت على المشاركة في إعادة التدوير؛ فخطت اليابان خطوات واسعة نحو المجتمع الدائري، الذي يحول المخلفات إلى موارد جديدة للإنتاج، غير أن هذه التشريعات لم تكن كافية وحدها، بل احتاجت إلى وعي وتعليم يرسخانها، ويحولانها إلى سلوك فطري عند الفرد.
لذلك، لعبت المدرسة دوراً محورياً في بناء وعي الفرد. ففي المدارس اليابانية، هناك فترة يومية، تسمى «أوسوجي»، يقوم خلالها الطلاب بتنظيف فصولهم بأنفسهم. والهدف من هذا السلوك ليس مجرد النظافة، بل تربية حس الانتماء والمسؤولية، وغرس قيم احترام الأماكن العامة والبيئة المحيطة. بهذه الطريقة، يتعلم الطفل - منذ الصغر - أن البيئة جزء من هويته، وأن الاستدامة ليست تعليماتٍ مفروضةً، بل ممارسة نابعة من حس الإنسان بعلاقته مع البيئة، وحماية الأجيال القادمة. إضافة إلى تعليمهم قيماً ومفاهيم أخرى مهمة، منها على سبيل المثال مفهوم «الموتايناي»، الذي يدعو إلى عدم الهدر، والاقتصاد في استخدام الموارد الطبيعية بالحياة اليومية.
كزائرة، اختبرت معنى أن يكون غياب النفايات حضوراً لمعنى آخر، هو أن ترى ذاتك امتداداً للطبيعة، وأن تدرك أن المكان الذي تعيش فيه ليس محيطاً منفصلاً عنك، بل هو كائن حي يتشارك معك الحياة، والمصير.
وحين يتربى الفرد على ألا يترك أثراً سلبياً في البيئة، يصبح هذا السلوك جزءاً من مفردات الاحترام للطبيعة. لذلك، تبدو اليابان - لمَنْ يتأملها - درساً واضحاً في أن البيئة ليست قطاعاً منفصلاً عن الحياة، بل جزء من الهوية، وأن إعادة التدوير جزء من التفكير، والاستدامة ليست شعاراً، بل ثقافة راسخة، وأسلوب حياة!