عائشة بن لوتاه: القطاع المالي جزء من هويتي

حين جلسنا مع الدكتورة عائشة بن لوتاه، كان في حديثها بريق يختلف عن المألوف؛ بريق امرأة ترى في التكنولوجيا لغةً نابضةً بالحياة، وفي الأرقام قصصاً ترويها بصدق ودفء. فلم نجد في صوتها الصرامة المعتادة في عالم المصارف، بل وجدنا مزيجاً من إصرار وشغف، صاغته بيئة عائلية، جعلت من العلم ميراثاً، ومن حب الأرقام

حين جلسنا مع الدكتورة عائشة بن لوتاه، كان في حديثها بريق يختلف عن المألوف؛ بريق امرأة ترى في التكنولوجيا لغةً نابضةً بالحياة، وفي الأرقام قصصاً ترويها بصدق ودفء. فلم نجد في صوتها الصرامة المعتادة في عالم المصارف، بل وجدنا مزيجاً من إصرار وشغف، صاغته بيئة عائلية، جعلت من العلم ميراثاً، ومن حب الأرقام هوية؛ فهي ابنة بيت مصرفي عريق، أسس أول بنك إسلامي حديث في العالم؛ لتنشأ حاملةً إرثاً تحوّل - مع الوقت - إلى جزء من كيانها، وامتداداً طبيعياً لما تصفه بأنه «الدي أن أي» (الحمض النووي) الخاص بها. في هذه المقابلة، أخذتنا الدكتورة عائشة بن لوتاه في رحلة بين محطات حياتها: من مُرَاهِقة تتعلّم البرمجة والترميز وتخوض تجاربها الأولى في التداول، إلى شابة تُثبت نفسها وسط عمالقة التكنولوجيا المالية/الأصول الافتراضية، وصولاً إلى امرأة إماراتية تساهم اليوم في قيادة قطاع الأصول الافتراضية في دبي، وتضع بصمتها على خريطة الاقتصاد الرقمي العالمي.

من شغف الطفولة إلى حلم المهنة

منذ الصِّغَر، أظهرت الدكتورة عائشة بن لوتاه ميولاً لافتة نحو التمويل والتكنولوجيا؛ فتعلّمت «الكودينغ» في الرابعة عشرة، وبدأت تداول الأسهم في الثامنة عشرة. كان العالم المالي - بالنسبة لها - ملعباً واسعاً للتجربة والاكتشاف، تُغذّيه بيئة عائلية محفّزة، تشجّع على الطموح والجرأة، وتؤمن بأن المسؤولية الاجتماعية جزء لا يتجزأ من العمل المصرفي. إن دخولها عالم التكنولوجيا المالية لم يكن مصادفة؛ بل كان امتداداً لذلك الشغف، الذي نما داخلها مبكراً.. تقول: «القطاع المالي كان - ولا يزال - جزءاً من هويتي، ومنذ بداياتي كان حلمي أن أتعلم التمويل الإسلامي، وأن أبحث في أبعاده الاجتماعية والإنسانية».

  • عائشة بن لوتاه: القطاع المالي جزء من هويتي

إنجازات أكاديمية

على الصعيد الأكاديمي، نسجت الدكتورة عائشة بن لوتاه مسيرة استثنائية؛ فقد نالت البكالوريوس في إدارة الأعمال وتكنولوجيا المعلومات بتقدير «امتياز مع مرتبة الشرف»، ثم الماجستير في إدارة الأعمال الدولية، وأكملت مشوارها بالحصول على «الدكتوراه» في الاستثمار. ولم تتوقف الدكتورة عائشة عند ذلك، بل واصلت رحلتها في أعرق الجامعات العالمية، بين «لندن بزنس سكول» و«أوكسفورد»، كما حصلت على الدراسات التنفيذية، والشهادات المتخصصة في «البلوك تشين»، و«الفينتك». وبنبرة اعتزاز، علّقت: «التعلم - بالنسبة لي - لم يكن خياراً، بل أسلوب حياة. كنت أؤمن بأن المعرفة سلاحي؛ لأثبت نفسي في سن صغيرة، وسط تحديات كبيرة».

صِغَرُ السن.. وكِبَرُ الطموح

لم يكن طريق الدكتورة عائشة بن لوتاه نحو القمة مفروشاً بالورود؛ فجلوسها على طاولة مجلس إدارة وهي لم تتجاوز الثالثة والعشرين، ثم توليها منصب مدير إدارة في السادسة والعشرين، يعنيان أنها وضعت نفسها بمواجهة تحديات كبرى في عمر مبكر. بابتسامة واثقة، تستعيد تلك المرحلة، قائلة: «أكبر تحدٍّ واجهته هو صغر سني؛ فقد كنت دائماً مضطرة إلى إثبات كفاءتي بالعمل الجاد، والنتائج الملموسة، بين أسماء راسخة في هذا القطاع». لكنَّ سر قوتها لم يكن في الألقاب، أو المناصب، بل في شغفها بالعلم والمعرفة، الذي لم يخفت يوماً.. تضيف: «عَوَّضْتُ صغر السن بالمعرفة، واكتساب الخبرة، وكان شغفي بالقراءة والتعلم زادي الدائم». وهكذا، لم تكن المكتبة - بالنسبة لها - مجرد مكان، بل كانت فضاءً تُصقل فيه شخصيتها القيادية، وتجد فيه الإجابات التي مكنتها من فرض حضورها في قطاع يتطلب عمقاً فنياً، وصلابة شخصية.

محطات فارقة

تنقلت الدكتورة عائشة بن لوتاه بين القطاعَيْن العام والخاص؛ وصنعت مسيرة حافلة بالإنجازات، منذ بداياتها في «بنك دبي الإسلامي»، حيث أدارت محافظ بمليارات الدراهم وهي في مقتبل العمر، وصولاً إلى دائرة الاقتصاد والسياحة حيث قادت ملفات معقدة، مثل: التدقيق والمخاطر وأمن المعلومات وإدارة استمرارية الأعمال، وإدارة التمييز وجودة الخدمات الحكومية. وتصف تجربتها - خلال جائحة «كوفيد - 19» - قائلة: إنها «مرحلة ارتبطتُ بها عاطفياً؛ إذ كنا نرى كيف تسهم قراراتنا في تعافي الاقتصاد والمجتمع». ومع كل هذه المحطات، من عمليات الدمج إلى صياغة استراتيجيات دبي 2033، كانت هذه الخطوات تمهّد لعودتها إلى شغفها الأعمق (الأصول الافتراضية)، حيث تواصل، اليوم، كتابة فصل جديد من حكايتها مع الابتكار.

الأصول الافتراضية

بانضمامها إلى سلطة تنظيم الأصول الافتراضية في دبي (VARA)، كأحد الأعضاء المؤسسين، وجدت الدكتورة عائشة بن لوتاه نفسها أمام تحدٍّ استثنائي، هو صياغة إطار تنظيمي يعد الأول من نوعه عالمياً. تقول: «(VARA) هي الجهة الوحيدة المتخصصة، عالمياً، في تنظيم الأصول الافتراضية. وأن أكون جزءاً من هذه التجربة؛ فيعني أنني أشارك في وضع دبي بقلب خريطة الابتكار المالي العالمي». وبفضل جهودها وجهود فريقها، سجلت دبي أكثر من 1000 شركة في هذا القطاع، وعززت مناخ النزاهة والشفافية؛ لتتحول إلى بيئة جاذبة للشركات العالمية، ومركز تنافسي يعكس مكانتها في الاقتصاد الرقمي.

التكنولوجيا.. والفرص الجديدة

لا ترى الدكتورة عائشة الأصول الافتراضية مجرد عملات رقمية، مثل: «البيتكوين»، أو «الإيثيريوم»، بل تعتبرها منظومة متكاملة، تشمل: الرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs)، وتقنيات الملكية الجزئية للعقارات عبر «البلوك تشين»، التي تعيد تعريف الاستثمار العالمي، وتفخر بأن دبي كانت من أولى المدن في العالم، التي أطلقت مشروع تشفير السوق العقاري، في خطوة وصفتها بأنها «ثورية؛ لأنها تمكّن المستثمرين - في مختلف القارات - من الدخول بسهولة وأمان إلى سوق عقاري عالمي المستوى». وتوجه رسالة خاصة إلى النساء، داعية إياهنَّ إلى اقتحام هذا المجال بثقة، فتقول: «لا يجب أن نتردد في دخول هذا العالم، فهو مليء بالفرص. البداية قد تكون بمحفظة رقمية صغيرة، أو استثمار تجريبي، لكن الأهم أن نكسر حاجز الخوف فالمستقبل الرقمي يرحب بالجميع». 

رسالة إلى الجيل الجديد

بالنسبة للدكتورة عائشة بن لوتاه، يبدأ الطريق إلى النجاح من المعرفة، وتؤكد: «الحلم الكبير يحتاج استعداداً أكبر، وهذا الاستعداد يعني أن نستثمر في التعليم والمهارات. والنزاهة والمصداقية هما الأساس، وعلينا أن نستخدم صوتنا؛ لنعكس قيمنا، ونمثل وطننا». ومن هذا المنطلق، ترى أن المسؤولية لا تقف عند حدود المؤسسات الحكومية، أو المناصب القيادية، بل تبدأ من قلب الأسرة، وتوضح: «كآباء وأمهات، علينا أن نغرس في أبنائنا الثقافة المالية منذ الصِّغَر، وأن نفتح أمامهم آفاق التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي». فهكذا، تتحول التربية إلى حجر الأساس في بناء جيل قادر على مواجهة المستقبل بثقة، من خلال تسليح الشباب بالعلم والمعرفة؛ ليكونوا روّاداً في رسم ملامح الغد الرقمي.