تُثبت تجربة المعماريات الإماراتيات، اليوم، أن العمارة تتجاوز حدود البناء المادي؛ لتغدو لغة سردية، تجمع بين الحِسّ البصري والجوهر الإنساني، وتعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان والمكان، في رحلة توازن بين الأصالة والتجريب. وتكشف أعمالهن عن رؤية تَنْبُعُ من وعيٍ ثقافي وجمالي عميق، حيث تتحوّل العمارة إلى وسيلة للتعبير عن الهوية، وإعادة تعريف الجمال؛ بوصفه مسؤولية تجاه البيئة والمجتمع.. في ما يلي قراءة لثلاثة مشاريع معمارية، يُجسّد كلٌّ منها تصوراً فريداً للإبداع والاستدامة، ويكشف كيف تُحوِّل المبدعات الإماراتيات المادة، والضوء، والسرد، إلى فضاءات تنبض حياةً وابتكاراً.
-
مشروع إسطبلات «Boxes Saddling» من أعمال فاطمة الزعابي ونورا العوّار.
فاطمة الزعابي ونورا العوّار
مهندستان من أبرز الوجوه الإماراتية في مجال العمارة المعاصرة، وقد أسّستا معاً «استوديو D04»، الذي أصبح منصة للإبداع المحلي، تجمع بين الحِرفة التقليدية، والتفكير التصميمي الحديث. ومن أعمالهما المتميزة مشروع إسطبلات «Boxes Saddling»، في مضمار جبل علي لسباقات الخيول، الذي ترجم شغفهما بإعادة تعريف المساحات الوظيفية، بطريقة تعبّر عن الروح المحلية بأسلوب معاصر. يتسم التصميم بتوازن دقيق بين الصلابة والدفء، حيث تستحضر تفاصيله المعمارية البساطة الجمالية للمباني الصحراوية، مع توظيف مواد طبيعية، وألوان ترابية، تعكس ملامح البيئة الإماراتية.
-
الإبداع والاستدامة بعدسة معماريات إماراتيات
جمال.. وراحة.. واستدامة
تجاوزت المهندستان الإماراتيتان المفهوم التقليدي للبناء؛ بوصفه إطارًا للوظيفة، إلى كونه تجربة حسّية، تُعزّز العلاقة بين الإنسان والطبيعة والحيوان. فالإبداع، هنا، ينبع من بساطة التعبير، وقدرة التصميم على الموازنة بين الشكل الجمالي والغاية البيئية؛ إذ صُمّمت الواجهات؛ لتوفير التهوية الطبيعية وتخفيف أثر الحرارة، ما يقلّل الحاجة إلى التبريد الاصطناعي، كما استُخدمت مواد محلية، تُسهم في خفض البصمة الكربونية. وهكذا، يتحول المشروع إلى بيئة متكاملة، تجمع بين الجمال والراحة والاستدامة، وتقدّم نموذجاً يحتفي بالهوية الإماراتية عبر لغة معمارية معاصرة، تُناغم بين الإحساس الفني والوظيفة.
-
الإبداع والاستدامة بعدسة معماريات إماراتيات
الزينة لوتاه
من أنجح المصممات الإماراتيات، اللواتي جمعن بين: العمارة، والفنّ، والتصميم السردي، في مشاريع تجسد الأصالة الإماراتية بروح معاصرة. وتعمل على تطوير مشاريع، تتجاوز الشكل إلى الفكرة، مستلهمةً التراث المحلي، ومفردات البيئة؛ لتقديم رؤى جديدة. ومن أشهر أعمالها «جناح نسيج»، الذي قدّمته ضمن مبادرات معمارية، في «أسبوع دبي للتصميم 2023»؛ لتعكس التفاعل بين الحرفة والفكر التصميمي الحديث. يستمد «الجناح» اسمه من مفهوم «النسيج»؛ باعتباره استعارة رمزية للعلاقات الإنسانية والثقافية المتشابكة، التي تُشكّل هوية الإمارات، فجاء التصميم نسيجاً من الضوء والظل والمواد المحلية، يدمج الخطوط الهندسية، والأنماط المستوحاة من النسيج التقليدي الإماراتي، في تكوين معماري، يجمع بين الأصالة والابتكار.
استدامة ثقافية.. وبيئية
قدّمت لوتاه مقاربة فريدة، تُعيد التفكير في معنى العمارة كوسيلة للحوار بين الماضي والمستقبل. فالإبداع، في هذا العمل، لا يقتصر على الشكل أو التقنية، بل يمتد إلى الفكرة الجوهرية، التي تربط بين الإنسان، وذاكرته المادية. وقد استخدمت لوتاه مواد طبيعية قابلة لإعادة الاستخدام، واعتمدت حلولاً تصميميةً، تسمح بتدفّق الضوء والهواء، ما يقلّل استهلاك الطاقة. وبهذه الرؤية، يتحول «المشروع» إلى بيان بصري عن الاستدامة الثقافية والبيئية، حيث تتداخل الحِرفة مع الحسّ المعماري؛ لتقديم تجربة تحفّز الزائر على تأمل النسيج، الذي يربط بين الجمال والمسؤولية، وبين الهوية والتجديد. ويبقى أن استخدام الخشب - بترتيب قابل للتفكيك، وإمكانية إعادة التدوير - يضع «المشروع» ضمن نهج الاستدامة الدائري.
-
الإبداع والاستدامة بعدسة معماريات إماراتيات
ريم القمزي
معمارية إماراتية صاعدة، تُمثل الجيل الجديد من المعماريات، اللواتي يقدن التحوّل نحو عمارة واعية بالبيئة، والسياق الاقتصادي، في آنٍ. ومن خلال مكتبها المعماري «R.Qitects»، تتبنّى القمزي فلسفة تصميمية، تمزج الابتكار التقني بالمسؤولية المؤسسية، حيث لا تنفصل الجماليات - عندها - عن الأداء والكفاءة. ويَبْرُز مشروعها «Green Coast»؛ بوصفه نموذجاً تطبيقياً لهذه الرؤية، إذ يجمع بين الطابع التجاري والصناعي، ضمن بنية عمرانية متكاملة، تراعي المعايير البيئية العالية، بما في ذلك حصول أجزاء من «المشروع» على تصنيف «LEED Gold» العالمي. ويعتمد «المشروع» على تخطيط ذكي للمساحات، يُوازنُ بين الوظائف المتعددة، من المكاتب إلى المستودعات والمرافق اللوجستية، مع الحفاظ على راحة المستخدم، وتجربة مكانية إنسانية.
المدينة المستدامة
يرتكز «المشروع» على رؤية مُسْتَلْهَمَة من الطبيعة، فتتداخل الواجهات الحديثة مع جدران خضراء حيّة داخل مظلات معدنية ضخمة، تُسهم في تحسين جودة الهواء، وكفاءة الطاقة. ويعتمد التصميم على بساطة أنيقة تُوازن بين الجمال والوظيفة، مع مساحات عمل متعددة الاستخدام تجمع بين المكاتب والمعارض والمستودعات، ضمن بيئة محفّزة على الإبداع. واعتماداً على المواد الراقية والتقنيات الذكية، يعد «المشروع» نموذجاً عملياً للاستدامة المؤسسية، التي تُحوّل المعايير البيئية إلى قيمة اقتصادية مضافة، وتؤكد أن الكفاءة التشغيلية يمكن أن تكون لغة جمالية، توسّع نطاق الاستدامة في قطاع العقار، وتعيد تعريف ملامح المدن المستقبلية في الإمارات.
وختاماً.. يكشف كلّ مشروع عن بُعدٍ فريدٍ في الطريقة، التي تتقاطع بها الاستدامة مع الإبداع في العمارة الإماراتية، التي تشكّلها أيادٍ نسائية ملهمة، فتمتزج الحِرفة بالتقنية، والسرد بالوظيفة، والوعي البيئي بروح الثقافة المحلية. ومن هذا التآلف المتناغم بين الجمال والمسؤولية، تَبْرُزُ الرؤية المعمارية النسائية الإماراتية قوةً قادرةً على ابتكار لغة تصميمية، تعبّر عن هوية المكان، وتستشرف ملامح مستقبل العمارة في المنطقة.