في عصرٍ أصبحت به الصورة مرآةً للشعور، وصوتاً خافتاً لما لا يُقال.. لم تعد علاقتنا بالطعام جسدية فحسب، بل هي حوار خفي بين ما نحتاج إليه، وما نشعر به. فالجوع، أحياناً، لا يكون نداء المعدة، بل صدى لفراغٍ داخلي؛ والشبع لا يعني الاكتفاء، بل محاولة لطمأنة النفس. وبين لقمةٍ تُؤكل، وأخرى تُرفض.. يدور حوار صامت بين الجسد والروح، يبحث فيه الإنسان عن معنى الاتزان، الذي لو اختل قد يتحوّل الأكل إلى رمزٍ لشيءٍ أعمق: خوف، أو حزن، أو رغبة في السيطرة على ما لا يمكن السيطرة عليه. هنا، يبدأ الجسد التحدث بلغةٍ خاصة، ويُصبح الطعام وسيلةً؛ للتعبير عن الصمت النفسي، لا مجرد حاجة بيولوجية. ومن خلف الأطباق والمرايا، تختبئ حكايات عن خوفٍ من الرفض، وجسدٍ يبحث عن القبول.. في هذا الملف، نفتح نافذة على «اضطرابات الأكل» برفقة الدكتور آرام حسن، استشاري الطب النفسي والمعالج في المركز الأميركي النفسي والعصبي؛ بروفيسور مساعد غير متفرغ في جامعة الإمارات، لنفهم كيف تتحوّل العلاقة مع الطعام إلى صراع نفسي، وكيف يمكن للجسد أن يكون انعكاساً لألمٍ لا يُرى بالعين، وكيف لمسار التعافي أن يعيد التناغم بين الفكر، والمشاعر، والجسد.

  • «اضطرابات الأكل» الجسد مرآةٌ لما تخفيه النفس

ما وراء الجوع.. والشبع

يُعرّف الدكتور آرام حسن «اضطرابات الأكل» بأنها اضطرابات نفسية، تتعلق بطريقة التفكير والشعور تجاه الطعام، والوزن، وصورة الجسد. ويوضح: «إنها ليست مسألة طعام فحسب، بل محاولة للسيطرة على مشاعر القلق والخوف عبر الجسد». فحين يمتنع المصاب عن الطعام؛ ليشعر بالتحكم في حياته، أو يفرط فيه هرباً من الألم، يصبح الجسد ساحةً لصراعٍ داخلي، بين ما نراه في المرآة، وما نشعر به في الداخل. ويشرح أن «الأنوريكسيا نرفوزا» (Anorexia Nervosa) تتميز بتعمّد الامتناع عن الأكل؛ خوفاً من اكتساب الوزن، رغم النحافة الشديدة، كوسيلة للسيطرة على الذات، والمشاعر. أما «البوليميا نرفوزا» (Bulimia Nervosa)، فهي نوبات من الأكل المفرط، يعقبها تخلّص قسري عبر التقيؤ، أو استخدام المليّنات، أو الصيام المفرط، في دائرة مغلقة من الخجل والذنب.. ويقول: «في الحالتين، تكمن المشكلة الحقيقية ليس فقط في الأكل بحد ذاته، أو الوزن، أو الشكل، بل في المعنى النفسي العميق، الذي يحمله الأكل للشخص كوسيلة للسيطرة، أو للهروب من الألم والحزن، وحالة القلق والتوتر بسبب صراع نفسي داخلي، متعلق بالشعور بالقيمة الذاتية». 

«المراهقة».. والبحث عن «الذات المثالية»

يؤكد استشاري الطب النفسي أن «اضطرابات الأكل» تكثر في سن المراهقة، فهي المرحلة التي تتشكل فيها الهوية الجسدية، والنفسية.. يقول: «في هذه السن، يكون المراهق أكثر حساسية لنظرة الآخرين، وأكثر قابلية للتأثر بمعايير الجمال المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي. وتشير الدراسات إلى أن الاستخدام المفرط لتطبيقات، مثل: (Snap Chat, Instagram، وTikTok)، يرتبط بارتفاع معدلات عدم الرضا عن الجسد، ما يمهّد لتطوّر سلوكيات غذائية مضطربة». ويضيف: «الخطر يكمن في المقارنة المستمرة، التي تزرع بذور الشك في النفس؛ فيتحول الجسد إلى مشروع لا ينتهي من التعديل والتصحيح».

حين يُربط القبول بالمظهر

يقول الدكتور آرام حسن: إن البيئة العائلية تلعب دوراً حاسماً في نشأة هذه الاضطرابات، إذ تظهر غالباً في أسر يُربط فيها الحب أو القبول بالمظهر أو الأداء. «عندما يكبر الطفل في بيتٍ يسمع فيه كلمات، مثل: (عليك أن تكون أنحف؛ لتبدو أجمل)؛ فإن العلاقة مع الجسد تتحول، تدريجياً، إلى علاقة خوف وخجل».. كما يوضح. ويشير إلى أن بعض الثقافات ما زالت ترى في الجسد انعكاساً للمكانة الاجتماعية، ما يزيد الضغط النفسي على الفتيات ليظهرن بشكل «مثالي»، حتى لو كان ذلك على حساب صحتهنَّ الجسدية، والعاطفية.

  • «اضطرابات الأكل» الجسد مرآةٌ لما تخفيه النفس

أعراض لا يجب تجاهلها

يشدد استشاري الطب النفسي على أهمية الانتباه إلى العلامات المبكرة، مثل: فقدان الوزن السريع، وتجنّب تناول الطعام أمام الآخرين، والانشغال الدائم بالسعرات الحرارية، وممارسة الرياضة بشكل مفرط.. ويبين: «الأهل والأصدقاء هم خط الدفاع الأول، وكل تأخر في التدخل يعني تعميق الجرح النفسي». ومع تطور الحالة، تظهر مضاعفات جسدية خطيرة، منها: سوء التغذية، واضطراب الهرمونات، وهشاشة العظام، واضطرابات القلب. أما التأثير النفسي، فيشمل: القلق، والاكتئاب، والوسواس القهري.

دوامة «السوشيال ميديا»

يرى الدكتور آرام حسن أن «وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت مرآة مشوَّهة للجمال». فهي تُظهر أجساداً مثالية لا تشبه الواقع، ومع تكرار المشاهدة تتسلل صورة غير واقعية إلى اللاوعي. ويضيف: «نحن أمام جيلٍ يعيش بين عالمَيْن: حقيقي ورقمي، ويقيس الجمال بعدد المتابعين، وليس باتزان النفس». ويؤكد أن الحل ليس في الابتعاد عن التكنولوجيا، بل في تعزيز الوعي الرقمي، وتعليم الأطفال والمراهقين التمييز بين الحقيقة والتمثيل، وبين الصورة والجوهر.

رحلة العلاج.. من الجسد إلى الوعي

يقول استشاري الطب النفسي: «العلاج لا يبدأ من الميزان، بل من الإدراك». فهدف العلاج ليس فقط استعادة الوزن، بل بناء علاقة جديدة بين النفس والجسد. ويُعد العلاج السلوكي المعرفي (CBT-E) من أكثر الطرق فاعليةً، إذ يساعد المريض في تحديد الأفكار المشوّهة، التي تغذي سلوكه المضطرب، واستبدالها بأنماط تفكير أكثر توازناً. كما يُسهم العلاج الأسري في إعادة التوازن العاطفي للأسرة، ويتيح للأهل تعلم كيفية الدعم دون ضغط. ويشير إلى أن بعض الحالات تستفيد من تقنيات (EMDR)؛ لمعالجة صدمات الطفولة المبكرة، أو تجارب التنمّر القديمة. أما الأدوية، فهي ليست الاختيار الأول للعلاج، لكنها تُستخدم عند وجود اضطرابات مصاحبة، مثل: الاكتئاب، أو القلق، أو مشاكل النوم.

التعافي.. رحلة وليس هدفاً

يصف الدكتور آرام حسن التعافي بأنه «رحلة نحو المصالحة مع الذات»، تبدأ بالوعي، وتنتهي بالقبول. ويضيف: «يحتاج المريض إلى دعم نفسي وغذائي متكامل، وأهم ما في الأمر أن يدرك أن التعافي ليس خطاً مستقيماً، بل طريق متعرج مليء بالتجارب». والهدف ليس تناول الطعام أكثر، بل استعادة الإحساس بالقيمة بعيداً عن الأرقام والمقاييس. ومن علامات التعافي: القدرة على الأكل بمرونة، والنظر إلى الجسد كشريكٍ في الحياة، وليس كعدوّ يجب تغييره.

  • «اضطرابات الأكل» الجسد مرآةٌ لما تخفيه النفس

الوقاية تبدأ من البيت

يشير استشاري الطب النفسي إلى أن الوقاية تبدأ من مرحلة الطفولة: «حين يتحدث الأهل بإيجابية عن أجسادهم، فإن أبناءهم يتعلمون احترام ذواتهم». وينصح بتجنّب التعليقات السلبية حول الوزن أو الشكل، وبدلاً من ذلك يجب التركيز على الصفات الشخصية، والقدرات العقلية. أما المدارس، فيترتب عليها دور تربوي بتعزيز ثقافة التنوّع الجسدي، وتقبّل الاختلاف، وتدريب المعلمين على رصد العلامات المبكرة. «كل كلمة، وكل نظرة، يمكن أن تكون بذرة إما لقبول الذات، أو لرفضها».. كما يذكر الطبيب.

بين المرآة.. والروح

يختم الدكتور آرام حسن، قائلاً: «العلاقة بين الإنسان وجسده مرآة للعلاقة بينه، وبين الحياة نفسها. حين نحترم الجسد، نحترم وجودنا». ويضيف: «الجمال الحقيقي لا يُقاس بالوزن، ولا يُحدّد بخطوط الجسد، بل بالانسجام بين الداخل والخارج، والصحة والمعنى، والروح والجسد. وحين يتعلّم الإنسان أن يقول لنفسه: أنا أستحق الحب والرعاية كما أنا، تكون تلك اللحظة بداية التعافي الحقيقي».