في صباحات باردة كهذه، وعندما تطبع زفراتي الحارة أثر بخارها على زجاج النافذة؛ فتمسحه أناملي؛ يتراءى لي خلفها مشهد قديم لنا.. الطريق الخالي يُنْبت ظلين متجاورين يشبهاننا.. يسيران معاً، وقد حملت المرأة باقة من زهور «بنت القنصل» الرائعة، تضمها إلى صدرها، كما تضم الأم وليدها، بينما يبدو الرجل شارداً غافلاً، مكتفياً بأنه لا يزال يحتضن كفها في قبضته!
زفرة أخرى حارة «تشوش» المشهد، لكنني لا أمسح البخار هذه المرة، بل أترك الزجاج غائماً، ككل ما صار يتعلق بك داخل روحي!.. «بنت القنصل»!.. تُراك لا تزال تذكر أنها كانت أولى هداياي إليك؟!.. لا زلت أذكر تعليقك المُسْتَهجن يومها، وأنت تصفها بـ«الجميلة السامة»!.. كلماتك شديدة العملية تصفها: «لا تنخدعي برقة بتلاتها؛ فهي تُخْرِجُ مادة سامة؛ عندما تنكسر ساقها، أو تُجْرَح أوراقها». ووجدتني، حينها، أدافع عن «زهرتي»، وأهتف بأنها فقط ترفض أن تكون «ضحية»، فخلف مظهرها الرقيق تكمن قوتها الخفية، كأنها تصرخ في وجه الجميع، بأن جمالها ليس ضعفاً، وأناقتها ليست استسلاماً، فهذا السائل الأبيض هو دموعها؛ عندما تتحول إلى سلاح، يذكرنا بأن بعض النفوس الرقيقة، رغم حساسيتها المفرطة، تحمل داخلها حدوداً، لا يجب تجاوزها، فهي كقلب عاشق جرحه الغَدْرُ؛ فتعلم كيف يحمي ما بقي منه!
هل كانت رسالتي الخفية، حينها، غامضةً إلى هذا الحد؟!.. أم أنك أنت مَنْ أخطأت التفرقة بين الرجاء والوعيد؟!.. هل كان ينبغي أن يفضح السم جرح الزهرة، أما كان يكفيها أن تُسقى فتتفتح، أو تُهمل فتذبل؟!
زفرة أخرى «تشوش» المشهد من جديد، تمسحه أناملي؛ فأرى الطريق الخالي يُنبت ظلاً واحداً هذه المرة.. تسير المرأة وحدها، ولا تزال تحتضن زهورها، تتلفت يمنة ويسرة، كأنما تبحث عمن كان رفيقها.. أو ربما.. عن نفسها ذاتها، لكنني صرت واثقة بأنها لن تجد كلَيْهما.. عندما تدور «عجلة الجرح»؛ يصبح من الصعب التفرقة بين مظلوم وجانٍ.. فكلاهما خاسر!.. كلاهما ملوم!.. كلاهما ضال في طريق بلا عودة!
أيا زهرتي، التي كم تشبهني!.. تحبين بقوة.. تتألقين بقوة.. وتحمين نفسك بقوة!.. لَيْتَهم يدركون أن قسوتك ليست إلا انعكاساً لـ«هشاشة» تخشى الكسر من جديد.. لَيْتَهم يتوقفون عن اختبار نعومتك بالأذى، ثم يصفون خشونة دفاعك بالعدوان!
زفرة أخرى تتحرر خلف سجون روحي، لكنني أبتعد عن النافذة تماماً هذه المرة، ما عاد يليق بالقلب أن «يتلصص» عبر أستار الماضي، فبين يدَيْه لا يزال غدٌ وأملٌ وحياةً، ومشهدٌ لزهرة تتفتح، ولا تخشى أن تُكسر ساقها من جديد هذه المرة..!