ستُقبِل عليك الحياة؛ بمجرد اتخاذ التوَكَُّل مساراً حقيقياً لحياتك، تجسده بأفعالك، لا بـ«نشوة الترديد للفظة».

إنك تحيا من جديد، حُراً من رغبة السيطرة على الظروف والأحوال والأنفس، تُعيد مفاتيح الطريق إلى المشيئة الإلهية، وتُلغي كل فكرة تشبثتَ بها، وجادلت، وناضلت لأجلها لسنوات طوال، وقد تُلغي الرحلة التي خططت لها منذ زمن؛ لاعتقادك أنها المسعى الوحيد والأخير نحو هدفك، ثم تكتشف الآفاق، التي تأخذ في التوسع نحو بدايات ورحلات أجمل.. نحو تجريد روحك من المحدودية، فليس من قوة عُليا تأتيك وأنت في وجه العاصفة أعلى من قوة التوكل على الله.. جرِّب أن تتوكل؛ لترى المعجزات في الطريق. 

التوكل يعني أنك في معية الله؛ فأنت أعلنت - بتلك المعية - نهاية زمن الصراع والخوف من المجهول، وأطلقت جناحَيْك نحو سماء، تُولَدُ فيها من جديد، بعيداً عن التمسك بشيء، أو التدافع نحو شيء.. أوكلت أمرك إلى الله، وسرت منجذباً إلى السبيل المُيسَّرة، والمُمَهَّدة بالعناية الربانية.

بمجرد الإذعان والتسليم؛ تستعيد تلك الحاسة الفطرية القديمة، وتصير محور دوران الأفلاك، وتتلاشى المسميات بمعانيها، ويغدو الفراغ واضحاً كمأمن روحيّ، لكنه فراغ حافل بالسعيّ، والإيمان، والثقة التامة بالله.

في حضرة التوكُّل، تصير أنت المُريد والمعلم والدرس والسبيل والفراغ والرضا.. تمضي راضياً متخففاً من ثِقَل القلق، نافضاً الصحراء المدفونة في خيالك المرتبك بالتصورات الغيبية المرعبة. 

التوكل هو مطلق الإيمان بقوة التفويض، وأثره العظيم في الحياة.. الإيمان بسعة الرحمة الربانية؛ فلا وجود لمن يفهم وجه الخير لك أكثر منك سوى خالقك الذي سواك فعدلك.. التوكل هو السماح لـ«مشيئة النور الإلهي» بأن تغمرك من جديد، وتشع من خلالك، وهو «القنطرة الخضراء» المفضية إلى بصيرة القلب، وصفاء الثقة بالله.

ثق بالله في سعيك، الذي سيُرى بعين الرحمة والعناية، وامضِ متوكِّلاً، وستُذهلك قوة التدبير والتنفيذ والتسخير، وكيف أن المطامح والأهداف ستُرتب نفسها، وستتجلى بيُسر في واقعك.

التوكُّل هو المعنى الأكبر للحرية، كحال القارب - في لحظة انثيال - يترك اليابسة، ورائحة الرمل، ونداءات الصيادين المالحة على البحر و«يلوف»، ويبتعد في مشهد حُرٍ، يذوب في مدّ أزرق.. انثيال إلى الأبد الممتد في «هذيان الماء»، يتجلّى بنكهة رطوبة الأخشاب، وهالة الشمس، و«طراوة الفراغ الرومانسي الأحمر»، فيستمر متدفقاً في رذاذ الموج، ومسرح النوارس، ونسمات السكون البعيد، حليفه التيار، ومداد الوقت الذي لا ينتهي.. قارب ينحل من رباطه، ويسبح نحو الخفة، و«غيبوبة نص مفتوح التأويل».. يبتعد في البحر دون ربان وقائد، مصغياً إلى تراتيل الأعماق، وأحلام الغيابات اللذيذة.

هكذا يبدو المعنى الأبديُّ للتوكُّل..!