قديماً.. ارتاد الطلبة المساجد والكنائس ودُور العلم، ليَتتلمَذوا على أيدي معلمين، يستقون منهم القراءة والكتابة وآداب الحديث، في عصر الـ«كتاتيب». قبل أن تتطور المسألة إلى انخراط الطلاب في مدارس نظامية، توفر لهم روح التنافس والقدوة والانضباط والمسؤولية، فضلاً عن تلقّيهم العلوم المختلفة. «زهرة الخليج» ترصد اليوم ظاهرة بدأت في الظهور، تتلخّص في رغبة بعض الأهالي في ترك أبنائهم المدارس النظامية وتدريسهم في المنازل، بإشراف تام من الأبوين، والاستعانة أحياناً بمنصات «التواصل الاجتماعي» والمعلمين الخصوصيين لمساعدتهم على التدريس، في مُحاكاة واضحة لبدايات القرن العشرين، عندما كان الآباء أنفسهم يتتلمذون في الـ«كتاتيب»، الذين أعادوا أبناءهم إليها، لكن في عصر التكنولوجيا والتقنيات المعلوماتية.

البيئة المدرسية

يرى مستشار وزير الدولة لشؤون التعليم العالي والمهارات المتقدمة، سيف راشد المزروعي، أن دور البيئة المدرسية مُساعدة الطالب على المنافسة والإبداع والتقدم العلمي، وأن التعليم المنزلي يتطلب أن يكون لدى الأم الكثير من المهارات، كي تستطيع أن تعلم أبناءها مختلف المواد الدراسية بمفردها، من دون الحاجة إلى الرجوع للمعلّم. مُضيفاً: «ترك المدرسة من الأمور التي تتطلب المزيد من الدراسة والبحث والتأني، خاصة أن الطالب في المراحل الأولى من التعليم يحتاج إلى الاندماج مع أقرانه من خلال البيئة المدرسية». وثمّن المزروعي دور الآباء في مساعدة أبنائهم خلال مراحل التعليم المختلفة، مؤكداً أنهم يبذلون قصارى جهدهم لمنحهم حياة أفضل، سواءً أكان على مستوى التعليم أم غير ذلك من أمور الحياة. مُتسائلاً: «كيف تستطيع الأم أن تُدرّس أولادها وهم في مراحل تعليمية مختلفة، مناهج تختلف من طالب إلى آخر؟ وماذا عن الأم العاملة؟ وكيف يمكنها إدارة وقتها والبقاء مع الأبناء فترات طويلة من أجل شرح كل هذه المواد التعليمية؟». 

ويختتم قائلاً: «فكرة ترك الطلاب الصفوف المدرسية والدراسة من خلال «الشبكة العنكبوتية» في المنزل بمساعدة أولياء الأمور مُمكنة، بيد أن الأمر يحتاج إلى وضع ضوابط وشروط، وأن يتم تطبيقه على شريحة أوّلية لمراقبة النتائج وتقييم التجربة قبل تفعيلها.

تجربة رائدة

 ترى عضو «المجلس الوطني الاتحادي»، ناعمة الشرهان، أن تجربة المرأة الإماراتية التي ساعدت أبناءها على الدراسة من المنزل عن طريق «الشبكة العنكبوتية» رائدة وتستحق التقدير، كونها وفّرت على أبنائها تحديات كثيرة تواجههم خلال الذهاب إلى المدرسة يومياً، موضحة: «وفّرت المصروفات المدرسية، وروتين المدرسة اليومي، ومشكلات التنمّر وضعف المعلم في بعض الأحيان، وساعات الدراسة الطويلة، وغياب الأنشطة التفاعلية». 

وتضيف الشرهان: «حتى يتم اعتماد نجاح التجربة رسمياً، لا بد من أن يتحلّى أولياء الأمور بالصبر والإصرار، وأن يبحثوا في الموضوع بطريقة سليمة وكافية، فضلاً عن ضرورة أن تضع الحكومة والجهات المختصة القوانين والضوابط المطلوبة لتيسير الأمر، وأن تتوافر للطلاب شهادة معتمَدة تؤهلهم للالتحاق بالجامعة، وبذلك نكون قد استطعنا القضاء على تحديات كثيرة تواجه الأسر في مجال التعليم».

أصحاب الهمم

يؤكد مدير مدرسة «التفوق للتعليم الأساسي» خالد السعيدي: «أن التعليم الإلكتروني بوجهٍ عام يحتاج إلى تغيير في ثقافة المجتمع، لاسيّما طريقة التعليم الإلكتروني خاصة من المنزل، مُعتبراً أنها سياسة تعليمية منتشرة في الدول الغربية». مُضيفاً: «أن تفعيل نظام التعليم المنزلي في الدول العربية يحتاج إلى مزيد من الوقت والجهد، خاصة أن وجود المعلم في حياة الطالب من الأمور المهمة جداً، كونه لا يدرّس المواد الدراسية فقط، لكنه يُرشد الطلاب ويثقفهم ويتدخل في تربيتهم جنباً إلى جنب مع الأسرة في المنزل، لذلك أطلق اسم (وزارة التربية والتعليم) على الوزارة الخاصة بالتعليم. فدور المعلم أيضاً تربوي إلى جانب الدور الأكاديمي».

ويقول السعيدي: «كان الطلاب في السابق يتعلمون من خلال شخص يُطلق عليه اسم (المطوع) من خلال الـ(كتاتيب)، فالمدارس ستبقى حتى لو كان نظام التعليم الإلكتروني موجوداً، فلا بد من أن يتم ذلك تحت مظلة المدرسة وبإشراف المعلم، ومن الممكن أن يكون نظام التعليم المنزلي موجوداً لبعض الحالات الخاصة التي يُفضّل أن تبقى في المنزل، لأنها في حاجة إلى إشراف طبي ورعاية، مثل بعض حالات أصحاب الهمم».

تقويم مستمر

من الناحية التربوية والاجتماعية، المعهود عن التعليم حاجته الماسة إلى بيئة صَفّية، مجتمع مدرسي، انضباط زمني، مناهج مُقنّنة وقيَم أخلاقية، بحسب استشارية «علم الاجتماع التربوي» نعيمة قاسم، التي تُضيف: «التعليم يحتاج أيضاً إلى تقويم مستمر ومَرْحَلي، وفق قواعد وأصول مطبقة عالمياً. لذا، يُفضّل ألا يكون اللجوء إلى التعليم المنزلي إلا عند الضرورة، مثل حالة حرب، دمار مدرسة، عدم وجود مال، مرض، وغير ذلك من الأمور الاضطرارية».. مُبيّنةً «أنه إذا كان التعليم المنزلي مناسباً لمرحلة معينة، فلا يمكن أن يستمر في المراحل العليا، كونه من الصعب إيجاد كادر مؤهل في المنزل يستطيع أن يلمّ بجميع المقررات الدراسية ويجري التجارب ويعزز اللغات، ويضمَن اعتراف المؤسسات الأكاديمية العليا بهذا النوع من التعليم أو ذاك النوع من التقويم». موضحةً «أنه إذا لم يندمج الأبناء في المجتمع المدرسي سيظلون مساجين الصندوق التقليدي، فالإبداع أدواته المنافسة بين الأقران، كما أن الحياة تتطلب أن تُصقل شخصية الطالب الاجتماعية ومساعدته ليكون شخصية قيادية تناقش وتتحاور، وهذا ما سيفتقده الطالب إذا تعلم في المنزل.

وتؤكد قاسم على  أن «الاندماج في المجتمع قضية مهمة لاكتساب القيم والتربية الأخلاقية وصولاً إلى القدوة الصالحة، من خلال بناء علاقات اجتماعية، لتكوين صورة واقعية للحياة العملية».

الاضطرابات النفسية

يقول استشاري «طب نفس الأطفال»، رئيس الجمعية العربية للصحة النفسية للطفل، الدكتور أحمد الألمعي: «إن الدراسة في المنزل من الممكن أن تكون أكثر فائدة لبعض الطلاب لكن بشروط، فالتعلم في المنزل يوفر الكثير من التحديات التي تواجه «أصحاب الهمم» في الذهاب إلى المدرسة كل يوم في أوقات محددة ولفترات طويلة، فضلاً عن أنه يستطيع أن يحل مشكلات البيئة الصفّية، مثل التنمر، ووجود أكثر من 30 طالباً في الصف الواحد، لاسيما أن هذا الازدحام قد يؤثر في مستوى فهم الطالب وتحصيله العام للدرس. ويُطالب الألمعي بإنشاء مدارس متخصصة للطلاب الذين يعانون «مشكلات سلوكية، مثل الاضطرابات النفسية، العنف، الإدمان وغير ذلك، خاصة في مرحلة التعليم الثانوي، فضلاً عن تخصيص صف في المدارس العادية للطلاب الذين يعانون صعوبات التعلم، حتى تتم رعايتهم على الوجه الأمثل».

شروط التعليم المنزلي

يحدد الدكتور أحمد الألمعي شروط التعليم في المنزل، التي من أهمها: 

 أن ينخرط الطالب في المجتمع الخارجي من خلال ممارسة الأنشطة الرياضية والترفيهية، فضلاً عن الأنشطة التطوعية. 

• أن يكون أحد الأبوين على دراية كافية بأمور التدريس، والأفضل أن يجلب مُعلماً للطفل داخل المنزل في بعض المواد التي تحتاج إلى المزيد من الشرح. 

• أن تتوافر لدى الطالب بيئة تنافسية محمودة بينه وبين إخوته، لأن التنافس يولّد الإبداع والابتكار.